أُوَدِّعُ بلداً أكثر ممّا أستَقبِلُ حدَثاً…

إذا كانت تركيا هي الخبر الأهم حالياً في العالم المسلم بل الخبر الأخطر للمعنيين بقدرة أو عدم قدرة المسلمين على الخروج من التخلُّف البنيوي المريع الذي يعيشونه، فإن الكرة الأرضية مليئة كالعادة بما هو أوسع وأهم من تركيا. مع ذلك وأنا أجد نفسي مُنْشَدّاً لأحداث عالمية ومحلية فإنني حين أريد الكتابة السياسية يعود الوضع التركي ليجذب اهتمام أصابعي على الكومبيوتر.

في تركيا من الخطأ، إذا جاز لي التعبير، اعتبار فشل الانقلاب هو الموضوع لطمأنة الخائفين مما هو أسوأ. برأيي أن الخسارة العميقة وقعت بمجرد حصول الانقلاب، نجح أو فشل، رغم الفارق طبعاً بين النتيجتين. هذا انقلابٌ كان يجب أن لا يحصل، ومجرد حصوله هو الخسارة التي ربما لا تُعوّض، والأرجح لن تُعوّض. لا أتحدّث هنا عن الانقلابيين وحدهم، بل عن كل النخب التركية الحاكمة والمعارضة والمتفرجة… كلها مسؤولة “حضاريّاً” عن فشل أعمق بكثير من فشل الانقلاب.
لذلك أشعر ومنذ حصول الانقلاب أنني أودِّع بلداً، أكثر مما أستقبل حدثاً.
أخبرني صديق لبناني أمس، لن أذكر إسمه من باب أمانة “المجالس”، أن باحثاً فرنسياً مقيماً في اسطنبول ذهب بعد الانقلاب العسكري إلى إحدى المكتبات التي تبيع كتباً باللغات الأجنبية ليستلم كتاباً عن مصطفى كمال أتاتورك كان قد أوصى عليه صدفةً قبل الانقلاب. لاحظ المثقف الفرنسي أن البائع في المكتبة كان يلف الكتاب الذي يحمل أيضاً على غلافه صورة أتاتورك بشكل مُحْكَم يحجبه بكامله. فسأله لماذا تفعل ذلك وأنت تستطيع أن تضعه بصورة عادية في كيس مفتوح؟ أجابه البائع التركي:”أنتَ تعرف الظروف الحالية بعد الانقلاب ولا أريد أن أتعرّض لمتاعب من جماعة أردوغان إذا ظهرتُ أتاتوركيّاً”.
هذه الحادثة الراهنة تكفي وحدها لإعطاء فكرة عن أين وصلت الأمور وأي جو “ردعي” أيديولوجي باتت تعيشه تركيا بشكل غير مسبوق، وأساساً حيال الأتاتوركية. هذا تحوّل “سوريالي” قياساً بأوضاع تركيا قبل أقل من أسبوعين ولم يكن ممكنا تخيُّله حتى قبل فترة وجيزة. وعندما تصل “الرقابة الذاتية” إلى هذا الحد فمعنى ذلك أن بذورَ فاشيّةٍ شعبيّة بدأت تحضر على غرار الأنماط الفاشية المستندة إلى نواة فاعّلة في جمهور منظم ولو كان لا يمثل أكثر من نصف الشعب التركي كما تُظهِر الانتخابات التشريعية في العامين الأخيرين وقبلهما (مع ذلك لا زال قادة حزب العدالة والتنمية يجلسون أمام الصحافة تحت صور أتاتورك في قاعات الدولة التركية!!).
أروي هذه الحادثة، حادثة نسخة الكتاب عن مصطفى كمال أتاتورك التي أثق بمصدرها وبدلالتها بمناسبة الثرثرة الترويجية الآن عالية الانتشار حول “نفوذ” حركة فتح الله غولن في الجيش التركي، غولن، الذي هو “داعية إسلامي”. بعض هؤلاء، وفي المقدمة السلطة التركية ما بعد الانقلاب، تتجاهل، والمردِّدون معها لبروباغنداها السياسية في الداخل والخارج، أن المخابرات العسكرية التركية ووراءها قيادة الجيش هي التي “طردت” فتح الله غولن من تركيا وأجبرته على الاختيار القسري للمنفى الأميركي في 18 حزيران عام 1999، وفي فترة امتدّت بعد انقلاب 1997 أقصت فيها القيادة العسكرية حكومة نجم الدين أربكان وحزبه من رئاسة الحكومة، ومن ضمن الحزبِ الوزيرُ يومها عبدالله غول ورئيس بلدية اسطنبول رجب طيِّب أردوغان اللذان سينفصلان عن أستاذهما ويشكلان لاحقا حزب العدالة والتنمية. فمن أين يجري الآن ترويج قصص عن نفوذ فتح الله غولن في رفع شأن ضباط في الجيش من أصول متواضعة؟ وهذه “الأصول المتواضعة” المبالَغ بها أو حتى المفتعَلة في جيش من ستماية ألف تحت الخدمة، هذا دون احتساب الموجودين في الاحتياط، فكيف يمكن أن لا يكون معظم ضباطه، بحكم الميكانيزم الاجتماعي للعدد، من “أصول متواضعة”، في بلد ودولة ينتميان طويلا ومنذ تأسيس الامبراطورية العثمانية بل قبلها إلى تقاليد تاريخية تفتح أعلى الرتب الاجتماعية ثم السياسية ليس فقط لذوي “الأصول المتواضعة” بل أيضا لأبناء الأسرى والديانات الأخرى (بعد أسلمتهم طبعا) في العهد العثماني.
تضخيم دور فتح الله غولن في الانقلاب العسكري الأخير مقصودٌ للتعمية على التململ الواسع داخل الجيش ذي التربية العلمانية الأتاتوركية ضد سياسات الرئيس رجب طيِّب أردوغان التسلطية المتزايدة قبل الانقلاب، والانقلابية بعد الانقلاب.
نعرف من تقاليد بعض المخابرات العربية كيف كان كل خصم سياسي يجري اتهامه بالعمالة للمخابرات الإسرائيلية. في لبنان في “عهد” الجنرال رستم غزالة وقبله الجنرال المنحور غازي كنعان كرئيسين لإدارة المخابرات السورية… كيف بلغ الأمر حد الابتذال في تعميم تهمة العلاقة مع إسرائيل. أعطي هذا المثال رغم اختلاف الظروف والمضمون والخطورة بين التهمتين الغولينية والإسرائيلية. مهمة التهمة الغولينية تخفيف دلالة التناقض بين الجيش وحزب العدالة والتنمية الذي هو تناقض بين “دولتين” علمانية ودينية. والأخطر أنه أصبح منذ ما قبل الانقلاب صراعاً بين “دولتين” عسكرية وبوليسية، كلتاهما غير ديموقراطية كما تُثبِت التطورات الحدثية.
في هذا الجو الانقلابي السيِّئ بالاتجاهين، لعل الخبر الوحيد الجيِّد الذي جاءنا من تركيا منذ فشل الانقلاب هو الحشد الذي التأم أمس الأول الأحد في ساحة تقسيم ودعا إليه حزب الشعب الجمهوري المعارض، الحزب الأعرق في الجمهورية التركية. كان حشداً تحت شعار لا يحمل أي التباس: “حشد الجمهورية والديموقراطية”. لا التباس… لأنه يؤكد على الجمهورية بمعنى العلمانية وعلى الديموقراطية بمعنى رفضها الانحراف التسلطي للسلطة الراهنة.
على المستوى الرمزي أحد أبرز مكاسب الرئيس أردوغان بعد الانقلاب هي سيطرته على ساحة تقسيم في اسطنبول بعد سنوات من تحوُّلِها إلى المكان الأبرز للاعتراض الليبيرالي النخبوي ضد ما آل إليه حكمه. الآن صارت الساحة، وبقوة، مركز الاعتراض على الانقلاب العسكري. حتى الأحزاب المعارِضة تريدها في هذا الإطار. لكن حشد الأمس، والذي جمع أيضاً ضد الانقلاب عناصر مؤيدة لحزب العدالة والتنمية هو نوع من تصحيح الاستعادة بإعادة التأكيد على البعد الديموقراطي للاحتجاج ضد الانقلاب… وسلطة أردوغان معاً.

إقرأ أيضاً: دور استخباراتي روسي في كشف انقلاب تركيا قبل ساعات من حدوثه
كانت الحركة الأتاتوركية في بدايتها حركة نخبة (أي أقلية) أخذت على عاتقها في العشرينات من القرن العشرين مهمة الإنقاذ الوجودي لـ”الأمة التركية” التي كان مجموعة مفكرين وسياسيين أتراك معظمهم جاء من مسلمي روسيا والقوقاز قد أحيوها ثقافياً كما يُثبِت كتاب ماركوس دريسلر. دريسلر يعتبر أن الحركة القومية التركية البادئة في أواخر العهد العثماني لم تُعد صياغة الإسلام التركي سياسياً، فقط، بل أيضا أعادت صياغة أقلية كبيرة هي ما أصبح يُعرف بالعلويين، ليس كـ”كزيلباش” خارجين عن الإسلام وإنما كمذهب يحمل إسلاماً مختلفا عن إسلام الأكثرية. من وجهة نظره كان هذا أحد تعبيرات الحاجة للاندماج القومي الصاعد. (ماركوس دريسلر: صياغة الدين- صناعة الإسلام العلوي التركي – 2013).
صحيح أن الحركة الأردوغانية ليست أقلاوية وإنما تستند إلى عمق شعبي، غير أن حصيلة حوالى مائة عام على الإرث الأتاتوركي تجعل من الخطأ النظر إلى الكتلة الأتاتوركية في المجتمع التركي باعتبارها أقلية. فهذه الكتلة، كما ظهر مع البورقيبية في تونس تمثل بمختلف شرائحها وتلوناتها حوالى نصف المجتمع التركي وبالتالي فإن الصراع الآن على هوية تركيا هي بين كتلتين شبه متعادلتين لولا تفوُّق الكتلة الدينية ببضع نقاط في الانتخابات.
في اليوم الثاني لثبات فشل الانقلاب المباشر حصلت حادثة خطيرة أو كان يمكن أن تصبح أخطر في مدينة ملاطيا. فقد توجّه مئات من جمهور حزب العدالة والتنمية إلى حي ذي غالبية علوية مُطلقين هتافات تهديد واستفزاز لعلويين كأنما هُمْ مع الانقلاب. جرى استيعاب الحادثة ولكن لا نعرف حجم الاحتكاكات في مناطق أخرى وربما ما يمكن أن يحدث مستقبلاً.
لكن من الخطأ التركيز على الفهم الطائفي لموضوع الصراع العلماني الديني لأن الكتلة العلمانية الضخمة في المجتمع التركي تضم عمودياً وأفقياً غالبية سُنِّية.

إقرأ أيضاً: أي مرحلة تدخلها تركيا بعد «الانقلاب»؟
واقعة منع الصلاة عن (بعض؟) الموتى من الذين شاركوا في الانقلاب العسكري دلالة أخرى كبيرة على حقبة التكفير التي دخلت فيها تركيا. التكفير عماد الموجات الدينية الفاشية والتخوين عماد الموجات العلمانية الفاشية.
من حسن الطالع أن الأحزاب العلمانية التركية رفضت الانقلاب الأخير، وإلا كانت قدّمت مُسَوِّغاتِ انقضاضِ الانقلاب المضاد الأردوغاني على الدولة العلمانية بشكل أخطر. لكن الصراع مستمر بين العلمانية والدينية. الباقي تنويعات وتعقيدات على مشهد مستقبل دولة مهمة، جزءٌ مباشر من المعضلات التي تطرحها وإن كنا لسنا، أو لم نَعُدْ، جزءا منها!
لا مكانَ جذاباً بين دولة وصاية عسكرية علمانية وبين دولة بوليسية دينية… ولا مستقبل.

(النهار)

السابق
بعد موقف سلام من اللاجئين السوريون.. طريق العودة معبدة؟
التالي
جعجع: حزب الله غير جدي في السير بترشيح العماد ميشال عون