لا حدود لإشارات الحجاب

 

 

نحن في الجميزة، شرقي بيروت. في أحد أمكنة السهر والإنشراح. الجمهور حاشد، لا طاولة واحدة من دون حجز. ومتنوّع جداً، خصوصا النساء: من المفْرطة في أناقتها، أو غنْدرتها، إلى الأقل إفراطاً. وفي الطاولة القريبة من الأوركسترا الشرقية، تجلس ثلاث نساء محجبات، بحجاب “عادي”، غير “مبتكر”، بصحبة رجال، فهمتُ بعد حين انهم أزواجهن. طبعا، لم يعترض أحد على وجودهن، كما يمكن للمرء ان يتصور لو تواجدت أولئك السيدات في أحد أماكن السهر المماثلة، في الغرب مثلاً. بل ربما لم ينتبه أحدٌ لوجودهن، أو ربما انتبه واعتبر الأمر “عادياً”. المهم انني نسيتُ النساء الثلاث لبرهة من الدقائق، ولم أتذكرهن إلا عندما حضر “المطرب المحبوب”، وأخذ التهييص مداه، وأخذت النسوة المحجبات ترقصن الواحدة بعد الأخرى، بفرحة عارمة، بذوق، ودقّة وفن. ولم يتوقفن عن القفز إلى “المسرح”، بالقرب من “الفنان”، والرقص والغناء، إلا عندما انتهت فقرته، وحيّا جمهوره، وخرج من المطعم الراقص.

قبل هذه الواقعة بأيام، وعلى بُعد خمسة كيلومترات، أو سبعة، كانت كلية الفنون، في الجامعة اللبنانية، تبعث لمجتمعها النقيض التام لرسالة مطعم الجميزة. نادي “سما” الطلابي، يعاقَب لأنه خالف “القواعد” بإقامته عرضاً راقصاً؛ والعقوبة سبقتها مقالات لأحزاب دينية، مهيمنة على الكلية، تقول عن الرقص والغناء ما هو معلوم. ولكن بعد ذلك، خالفت هذه الأحزاب بدورها القواعد المحظِّرة لإقامة احتفالات دينية في حرَم الكلية، فنظّمت حفل تكريم المحجبات، والطهارة والالتزام الخ. ومع ذلك لم تنلْ العقوبة التي تستحقها، لأن نطاق هيمنتها أوسع من الطلاب ومن الكلية.

إذن، نحن أمام واقعتين متناقضتين متلازمتين، لا تزيد بقعتهما الجغرافية عن كيلومترات معدودة. في الأولى، يتآلف الحجاب مع حرية الجسد، يتعايش معه. أما في الثانية، فالجسد ممنوع من الحركة، وما الحجاب إلا تكريسا لحبسه.

ما الذي يمكن استنتاجه من هاتين الحركتين، الحاصلتين في الزمن نفسه، والمكان نفسه، لا يفصل بين الأولى والثانية إلا بضعة أيام وبضعة كيلومترات؟

بأن المرأة المحجّبة لا تخضع حقيقتها للتصورات المسْبقة التي يمكن أن نحملها عنها، نحن معْشر العلمانيين، من انها قاعدة، حبيسة، خاضعة لأحكام الاحزاب الدينية، أو للمناخ الديني، السائد. بل هي متنوّعة الأبعاد، والفرديات، والطبائع والسياقات. هي ليست شبيهة المرأة التي تتصور الأحزاب الدينية انها تعيدها إليها. انها متمردة مناصرة لأنوثتها، لهويتها الجنسية؛ تعبر المرأة المحجبة عن ذلك، ليس فقط باقتحامها مجالات الرجال، إنما أيضاً ببعث إشارات كافية لتفهمنا بأنها ما زالت امرأة، وتحب فنون الغواية والجاذبية والإحتفاء بالحياة.

اقرأ أيضًا: عن بنات الشيعة والحجاب بدءا من سنّ الخامسة

لا أملك احصاءات دقيقة عن نسب النساء المحجبات المعبرات عن حريتهن بالأشكال المختلفة. وددتُ أن أسأل نديماتي في سهرة الجميزة مئة سؤال وسؤال… الجو لم يسمح طبعاً. كل ما أعرفه هو الظاهر من سلوك المرأة المحجّبة، في العلم والعمل خصوصاً، بل وحتى داخل الأحزاب الدينية نفسها، حيث لا تخْفت أصوات النساء المتمرّدات… تلك الدواخل التي تفسِّر كل هذه المضامين غير العادية لحجابها، هي من الأمور الجَلَل، وتحتاج إلى دراسات.

ولكن في هذه الأثناء، لا بد من ملاحظة ان كل امرأة محجّبة تختلف عن الأخرى. والمروحة واسعة جداً، تبدأ بتلك التي طبعت تصوراتنا، بالراكنة، المتسكينة، الممتنعة عن لذة الحياة… ولا تنتهي عند حدّ تلك التي تغْرف منها، بقدر ما تفعل السافرة، وربما أكثر منها.

والموضوع لا يتعلق بلبنان وحده، حيث التنوّعات الفردية شديدة، بعد التنوّعات الطائفية والطبقية والمناطقية. خذْ مثلا، إجابات لاجئات سوريات، على سؤال عن سبب خلعهن الحجاب منذ قدومهن الى ألمانيا. لا إجابة واحدة مثل الثانية: الأولى لأنها تريد تفادي النظرات المؤنّبة على حجابها، ولكنها تأسف، وتؤكد بالمقابل بأنها تقوم بكل واجباتها الدينية. الثانية لأنها لا تصدق انها تعيش في بلد ليست مرغمة فيه على إرتداء الحجاب، فتخلعه بفرح عارم. الثالثة تتشبثّ به، وتقرر مواجهة كراهية الحجاب في ألمانيا بنوع من المقاومة النفسية. لأنها لا تريد مخالفة تعاليم دينها. والرابعة… والخامسة…

لا أملك معرفة دقيقة حول هذه المسألة. ولكنني أتصور بأن تلك “الفوضى الأخلاقية”… تلك المفاجآت اليومية التي تضيف تنوعا على تنوع، للغة الحجاب ومعانيه، تحثّني على وضع فرضية، مدعاة للتمْحيص: من ان روح العصر الراهن هو الذي يعطي للحجاب كل هذا الثراء في المعاني والإشارات. وان هذه الروح هي مزيج من هيمنتين فكريتين: هيمنة النسوية، التي ما زالت تكسب مزيداً من المجالات لصالح النساء. وهيمنة الأفكار الدينية، الإسلامية خصوصاً، التي تشدّ النساء إلى أزمان غابرة، تتصور انها كلها قوامة وقعود. هيمنتان تتقاسمان روح العصر… والنتيجة، مشاهد من الحياة اليومية، تصطدم فيها القنْبلتان، فتنفجران: قنبلة الإسلامية وقنبلة النسوية.

(المدن)

 

السابق
هل أينع رأس البغدادي؟
التالي
شهر أيار الأصعب على المصارف اللبنانية.. وهذه التفاصيل!