أخطر تصريح في تاريخ الجمهورية التركية

رجب طيب اردوغان

أمام إحدى خِيَم تَجَمُّعِ هيئاتٍ عديدةٍ يساريةٍ وشبابية يحتلّ ساحة الجمهورية في باريس احتجاجاً على تقديم الحكومة الفرنسية لمشروع تعديل قانون العمل الذي حمل إسم “قانون الكومري” (الخمري) نسبةً إلى وزيرة العمل الحالية ميريام الكومري وتستمر هذه الحركة بشكلٍ متواصل منذ أوائل شهر نيسان الجاري… أمام هذه الخيمة وضع المنخرطون في الحركة صوراً للرئيس فرانسوا هولاند والرئيسين السابقين نيقولا ساركوزي وفاليري جيسكار ديستان بثياب استحمام نسائية مع توصيفات تهكّميّة.

كنتُ أتمنى لو شاهد الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان هذه الصور وغيرها من مألوف التهكّم على الرؤساء في الديموقراطيات الأوروبية لأن أردوغان بات يحمل “نظريته” التي قمع عبرها الصحافة التركية إلى أنحاء عديدة في العالم وهي “نظرية” التفريق بين النقد المهين والنقد غير المهين!
منذ وصولي إلى باريس منتصف الأسبوع المنصرم من النادر أن تخلو صحيفة رئيسية من موضوع يتحدث عن فصل من فصول قمع الحريات الصحافية والأكاديمية التركية أو من وصفٍ ولو عابر، حتى في موضوع آخر يتعلّق بتركيا ولاسيما أزمة اللاجئين (و”الفخ التركي” حسب ” لوموند”)، لما يُسمّى في الصحافة الغربية كلها وليس في فرنسا فقط “نزوع رجب طيِّب أردوغان التسلّطي” في السنوات الأخيرة من حكمه وتفاقم هذا النزوع بشكل متواصل.
لكن الجديد الآتي من تركيا على شاشات التلفزيون هذا الصباح يتخطّى كل ماسبقه. وهو إعلان رئيس البرلمان التركي إسماعيل كهرمان أن الدستور المقبل يجب أن يكون دينيا إسلاميا وليس علمانيا.
أستطيع كمراقب للشؤون التركية منذ أكثر من عقدَيْن أن أقول دون تردّد أنه أخطر تصريح ولربما أول تصريح واضح عن مشروع الحزب الإسلامي في الحياة السياسية التركية لإلغاء البنية العلمانية للجمهورية التركية منذ إنشائها عام 1923. أعني بذلك ليس فقط قياسا بـ “حزب العدالة والتنمية” الحالي بل أيضا قياسا بـ “حزب الرفاه” الذي وصل إلى السلطة في النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين برئاسة الزعيم التاريخي للإسلام السياسي الأصولي في تركيا. حتى الجناح الإسلامي للحزب الديموقراطي بقيادة رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس ( الذي أُعْدِم في انقلاب 1960) والذي حكَمَ عقد الخمسينات كله لم يجرؤ مسؤول واحد فيه على التصريح بالدعوة لأسلمة الدستور وإلغاء علمانيّته. كان أقصى ما فعله مندريس الذي كان يقدّم نفسه كعلماني محافظ هو السماح بعودة الآذان بصوت مرتفع إلى الجوامع ولمْ يُثِر ذلك أي مشكلة جادة.

اقرأ أيضًا: تركيا أقرب الى إيران من السعودية!!
اليوم، ينكشف المشروع “الإخواني” في تركيا من موقع المنصب الرئاسي الثالث في الدولة وليس مجرّد تصريح سياسي. وأقول بكل صدق أنني لم أكن أصدِّق سابقاً هذا الاتهام بأن “حزب العدالة والتنمية” يحضر لمشروع خفي لضرب أول دولة علمانية في التاريخ الحديث للعالم المسلم كانت تمكّنت من تكريس علمانيّتها في مجتمع مسلم ووصلت إلى حد السماح بوصول حزب من حساسية وجذور إسلامية أصولية إلى السلطة أكثر من مرة. المرة الأولى في السبعينات عندما نجح نجم الدين أربكان كزعيم لـ”حزب السلامة الوطني” في الدخول في حكومة إئتلافية مع “حزب الشعب الجمهوري” في موقع نائب رئيس الوزراء والمرة الثانية أشرنا إليها في التسعينات والرابعة مع “حزب العدالة والتنمية” عام 2002 والخامسة والسادسة إلى اليوم بعد ذلك ولكن في ظروف أصبحت مختلفة ومشبوهة جداً.
صحيح أنه من المتوقع مسارعة مسؤولين آخرين في الحكومة التركية إلى التبرّؤ من تصريح رئيس البرلمان الخطير جداً بصورة من الصور. لكن الآن تركيا أصبحت أمام مشروع انقلاب فكري وسياسي كامل على الجمهورية نفسها… وتهديد جهود أكثر من تسعة عقود على تأسيس أول وأكبر محاولة للمصالحة بين الإسلام والحداثة.
الجو في تركيا الآن يدخل في ظلامية متزايدة نرجو أن لا تكتمل: الدولة البوليسية الفعلية التي أقامها رجب طيِّب أردوغان تعلن مشروعها الديني على لسان رئيس البرلمان الذي، يا للسخرية، هو الذي سيدير عملية التصويت على مشروع الدستور الجديد المنطلق أصلاً من محاولة فرض نظام رئاسي على تركيا… ؟؟
سنرى كيف ستتفاعل، مناورةً واستراتيجيةً، هذه الانعطافة المذهلة، حتى لو جرى التراجع الشكلي عنها من بعض مسؤولي الحزب الحاكم.
تركيا الرائدة تتعرّض فعلاً لخطر شديد، الأيديولوجيا الأصولية باتت تحملها دولة بوليسية وصل إلى حد اعتقال الصحافيين الأجانب أو طردهم (هولندي وألماني).
رغم ذلك التاريخ يُظهِر إيغال الإسلام السياسي الأصولي في الفشل (مصر) أو في النضوب ( إيران) أو في التوحّش الانتحاري (داعش). أننا منذ مدة ليست قصيرةً نشهد الذروة التي يليها حتماً بدءُ التراجع لأن المجتمعات المسلمة بأكثرية نخبها تتطلّع إلى الحداثة والديموقراطية.
أمام النضال الديموقراطي في تركيا أيام صعبة والنموذج التركي يتعرّض لطلقة قد تكون مؤذية جداً.

(النهار)

السابق
روسيا والنجاح السوري القصير المدى
التالي
من يرسل الإيرانيين إلى سورية؟