فزاعة التوطين والاستعباد الجنسي

كنا نتوقع من وزير شؤون مكافحة توطين اللاجئين السوريين في لبنان السيد جبران باسيل أن يرفع صوته احتجاجا على «توطين» 75 فتاة سورية كرقيق جنسي في منطقة جونية- المعاملتين، ويمارس عليهن أشنع أنواع التعذيب وامتهان الكرامة الإنسانية.
قلت إننا كنا نتوقع على سبيل المجاز، فلقد تفوق الانهيار الأخلاقي الذي تعيشه المؤسسة الحاكمة اللبنانية على كل توقعاتنا، بحيث أننا لم نعد نُفاجأ بأي شيء. نعيش على فتات الموت، نستنشق النفايات، نأكل الطعام الفاسد، ونتحول إلى شهود على وضع يتسيّد فيه مجموعة من القوادين والسفهاء، من أمثال ثلاثي ملهيي «شي موريس» و«سيلفر». لاحظوا أن أعضاء الشبكة لا يميزون بين أبناء الطوائف والجنسيات. فالمافيا الجنسية التي أدارت عملية استعباد الفتيات السوريات وسجنهن وجلدهن وامتهان أجسادهن وأرواحهن، لا تبالي بالانتماءات المذهبية، ولا وجود فيها لأي تمييز ضد عضوها السوري، إنها مافيا منفتحة ولا تبالي بأي انتماء. المبدأ الوحيد الذي يحكم أعمالها هو الربح والجشع والعطش إلى التسلط والتمتع بإذلال الناس. وهي في ذلك تشبه مافيات النفايات والقمح المسرطن والأدوية وإلى آخر ما يطفو على سطح هذا الانحطاط الذي يحاصر بلادنا من كل جانب.
75 فتاة سورية تمّ «توطينهن» في السراديب، وتحولن إلى عبدات جنسيات. يُجلدن بالسياط، يعملن بلا مقابل، يجري إجهاضهن، يُحبسن في أقبية مظلمة، ويُجبرن على التزين والوقوف في الصف كالذبائح. توطين لا يزعج أحداً من أسياد هذه اللحظة المنقلبة، توطين يفتح شهية الكلام على رفض التوطين وينعش الاقتصاد المتهالك، ويدوس على الناس.
الكلمة الوحيدة التي تتبادر إلى الذهن هي الفضيحة. لكن فضيحتنا الكبرى هي أن كلمة فضيحة لم تعد تعني شيئاً، أو لم تعد تثير فينا أية مشاعر. «فضيحة، ثم ماذا»؟ لا شيء. صارت الفضيحة تحتمي بفضيحة أكبر منها، بحيث بتنا لا نعرف ماذا تعني كلمة فضيحة. صرنا شهودا للذل، هذا هو المدخل كي نتحول نحن أيضا إلى عبيد. فالذي يسكت عن هذا الاستعباد الشامل ليس فقط عبدا بالمعنى المجازي، بل يمهّد لعبوديته الفعلية الآتية.
أنقذتنا هذه المجموعة من الفتيات- الضحايا من فزاعة التوطين، لترسم أمامنا مرآتنا الجديدة، التي تُظهر صورتنا بصفتنا شهود زور إن لم نكن متواطئين ومشاركين في وضع الأغلال على أعناقنا.

اقرأ أيضًا: «مسرحية الدعارة» انتهت والمجتمع يعاقب باللفلفة
تفاصيل ما روته الفتيات يثير الذعر والرعب، لكنه ليس سوى بداية الحكاية. نحن أمام خمسة وسبعين مأساة. فتيات يُخدعن ويُسحقن لأنهن غريبات وفقيرات، ويجري تحويل أجسادهن إلى نعوش لأرواحهن. يتم تصيدهن بوسائل شتى، فالشبكة الإجرامية التي بدأت عملها عام 2011، قبيل اندلاع الثورة السورية بمآسيها الكبرى، وجدت في الإنهيار السوري، وفي تشريد شعب كامل على أيدي الجلادين في نظام آل الأسد، فرصتها الذهبية لتوسيع إجرامها، وإيصاله إلى حدود خيالية.
سراديب وسجون وعتمة، فتيات يعملن بلا أجر، ويُجلدن ويجوّعن وليس عليهن سوى الخضوع. سجن من طبيعة بدائية تنام فيه العبدات، ثم يؤخذن إلى نور الأضواء الخافتة، حيث يجري إطفاء الرغبة في الحياة عبر إغراقها في جنس مبتذل وهمجي مصحوب بالتعذيب. كأننا في فيلم عن زمن غابر، لكنه زمننا. الزمن ليس غابرا بل ثقافتنا وقيمنا وأخلاقنا هي الغابرات. آلة وحشية بنت دولتها في أحشاء دولتنا فصارت هذه الدولة المصنوعة من فتات الكلمات وفتات الأخلاق والتعريص هي من يحكمنا، ويجعلنا مستكينين، وحين نثور نجد جدرانا تسحقنا، ونكتشف أننا أسرى بنى طائفية تفتت بلادنا جاعلة منها مرتعا للصوص.
(أعتذر عن استخدام كلمة تعريص، لكنني وجدتها ضرورية هنا كي يستقيم المعنى. والحق أن من يجب أن يعتذر ويُحاسب هم المعرّصون الذين أوصلونا إلى هذا المنحدر. أما فعل عرّص الذي نشتق منه كلمة تعريص، فقد شرحه استاذنا أنيس فريحة في كتابه « معجم الألفاظ العامية» بهذه العبارات الوجيزة: « عرّص الرجل: زنى وفجر فهو عرصة أي فاجر أثيم ويقولون معرّص»).
نجاح مجموعة صغيرة من الفتيات في الهرب من الجحيم هو الذي كشف سراً لم يكن مستورا. لا شك أن الأجهزة الأمنية كانت تعرف أن الاستعباد الجنسي يمارس في مرابع هذا الساحل الجميل الذي افترسته النفايات، وأن هذه الممارسات كانت تجد من يغطيها ويتواطأ معها في قلب جهاز الدولة، وأن حكايات الفتيات الروسيات والأوكرانيات المخطوفات أو شبه المخطوفات كانت معروفة ويتندر بها فصحاء الذكورة والسياحة الجنسية.
كيف نفسّر واقعة وجود السيد موريس جعجع في السجن بتهمة تسهيل الدعارة، بينما أقبية مربعه «شي موريس» تعمل كالعادة، وتعج بالسجينات اللواتي لم يتوقفن عن العمل كرقيق جنسي يوما واحدا؟
كيف نفسّر المُفَسّر؟
هذه هي أحجية الانحطاط.
كيف نفسّر ونتفذلك ونتغطى بالقانون وصعوبات التحقيق كي نستر عارنا؟
لم يعد هناك ما يغطي، لقد تمزقت كل الستائر، وصار واقعنا عارياً ولا يثير سوى الاشمئزاز.
هؤلاء السوريات اللواتي تلطخت أجسادهن وأعمارهن أشرف وأنقى وأطهر منا جميـــــعا، إنهن مرآتنا التي تنتصب في وجوهنا كي تقول إنه آن الأوان كي ننظر ونرى. نظرة واحدة في هذه المرآة تكفي كي تكشف كل شيء، ونكون وجها لوجه أمام هذا العار الذي صار عارنا جميعا، لأننا عاجزون أو مستنكفون عن مواجهته بالطريقة التي تليق به.

(القدس العرب)

السابق
هيلين كلارك تعلن ترشحها لخلافة بان
التالي
حزب الله وأخواته …وخصومه