جنيف… مازال الطريق طويلاً

جنيف3

يبدو و منذ فترة لا بأس بها أن مسارات القضية السورية سواء العسكرية منها أو السياسية، تتحرك على أيقاع التفاهمات الروسية الأمريكية. فقد كان بيان جنيف المؤرخ 30 حزيران 2012 نتيجة ما اتفق عليه وزيرا الخارجية أنذاك لافروف و كلينتون، وصولا إلى بيان فيننا و قرار مجلس الأمن مؤخرا 2254 بإشراف لافروف و كيري. و إذا كان الطرفان قد إتفقا على تخفيف الأعمال العدائية، و وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، و البدء بعملية سياسية في جنيف يتوجب أن يتمخض عنها إنتقالا سياسيا نحو مرحلة إنتقالية يكتب خلالها دستور جديد، و تجرى في نهايتها إنتخابات شفافة بإشراف الأمم المتحدة، فإن الشئ الذي مازال محور خلاف هو مدى عمق التغيير السياسي الآني، و دور بشار الأسد خلال المرحلة الإنتقالية، و ما بعدها.

إقرأ أيضًا: أذرع إيران الإعلامية تشن حملة شرسة على«تيار الغد السوري»

و مايدل على عدم حدوث إتفاق بعد حول هذا الإطار هو تصريحات لافروف و كيري لدى لقائهما في موسكو في 25 آذار الجاري، و المتزامن مع إنتهاء جولة المفاوضات في جنيف، حيث طلب السيد كيري من روسيا “مساعدة الأسد على إتخاذ القرارت الصحيحة” في إشارة بلغة دبلوماسية حول ما يبدو أنه طلب بالضغط على الأسد كي يعلن إستعداده للتنحي، بينما قال نائب السيد لافروف أن الولايات المتحدة “وافقت على عدم مناقشة مصير الأسد في الوقت الراهن”.

أما السيد دي ميستورا، الذي يجري إتصالات يومية مع واشنطن و موسكو و يعلم جيدا مكامن الإتفاق و الخلاف بين العاصمتين، قد عكس تلك المواقف و الأجواء في وثيقته الجديدة التي طرحها على الوفود المشاركة في جنيف قبل بضعة أيام، حيث حاول أن يدوّر الزوايا في موضوع الإنتقال السياسي بصياغة جديدة قال فيها أن ” الإنتقال السياسي يشمل آليات حكم موثوق و شامل و غير طائفي”، و هنا عدّل دي ميستورا نص إتفاق فيينا و قرار مجلس الأمن 2254 اللذان ينصان على “تأسيس حكم موثوق و شامل و غير طائفي”، و إبتعد بقدر لا بأس به عن نص بيان جنيف الذي يقول “تأسيس هيئة إنتقالية حاكمة تمارس صلاحيات تنفيذية كاملة”. إن ورود عبارة تأسيس في الوثائق المرجعية السابقة يدل على أن “الحكم” أو “الهيئة الحاكمة” هي تشكيلات جديدة، بينما إزالة كلمة “تأسيس”، و إضافة كلمة “آليات” في الوثيقة الجديدة توحي بأن الآليات هي التي سوف تتغير و ليس الحكم بأكمله. و عنما سؤل السيد دي ميستورا عن عدم ذكر “الهيئة الإنتقالية الحاكمة” في مذكرته الجديدة، أجاب بأن مرجعية بيان جنيف مذكورة، و هي إشارة كافية. و لكن هذه تعتبر مراوغة مكشوفة، فكافة النقاط المذكورة في المذكرة الجديدة منصوص عليها بشكل أو آخر في بياني جنيف و فيينا و قرار مجلس الأمن 2254، فلماذا كان عليه أن ينشئ وثيقة جديدة؟.

أما وفد المعارضة الذي رحب بالوثيقة الجديدة حسب قوله أمام وسائل الإعلام أنها “عين الصواب”، فيبدو أنه قد فاته الإنتباه إلى ذلك التغيير في الصياغة، و من المعروف في المفاوضات السياسية أنها تجرى وفق وثائق و قرارات مرجعية، و لكن النتيجة النهائية هي ما يتفق عليه الأطراف، حتى لو حادت تلك الإتفاقات عن المرجعية قليلا أو كثيرا. أما المبدأ الآخر في التفاوض و هو “لا يتم الإتفاق على شئ، إلا عندما يتم الإتفاق على كل شئ”، فيتوجب على المعارضة الحذر في إستخدامه، لأن الضغوط الدولية سوف تحاول منعها من التراجع عن أمور كانت قد وافقت عليها.

الأمر الآخر الذي لم تتحفظ عليه المعارضة في الوثيقة الجديدة، هو إغفالها تماما لموضوع المحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية و جرائم الحرب، رغم ورود هذه البند في بيان جنيف. و ينص بيان جنيف في البند الثالث منه على أنه “يجب العمل على المحاسبة على الأعمال التي إرتكبت خلال الأزمة”، و يكمل البند الحديث عن التعويض و العدالة الإنتقالية، بينما الوثيقة الجديدة في البند 12 منها تكلمت عن التعويض و أغفلت المحاسبة.

أما الجيش، فقد تكلمت الوثيقة الجديدة حول إصلاحه و كذلك إصلاح مؤسسات الدولة، و لكنها أغفلت إصلاح الأجهزة الأمنية التي تشكل العمود الفقري لممارسة الإستبداد، و كذلك أغفلت الوثيقة وجوب خضوع كل من الجيش و الأجهزة الأمنية لقيادة الهيئة الإنتقالية أو الحكم الجديد، و كل ما سبق ينص عليه بيان جنيف.

و قد إبتدأ السيد دي ميستورا وثيقته بالقول أن “الأطراف تتبنى المبادئ التالية”، و ذلك في إشارة الى سعيه، ربما، إلى إعتماد الوثيقة الجديدة كمرجعية للجولات المقبلة للمفاوضات، و هذه يقتضي من وفد المعارضة، و من باب الحرص على الدقة في الوثائق و التعبيرات، و هذا الحرص يكتسب أهمية كبرى في مفاوضات من هذه النوع، أن ترسل تحفظاتها حول تلك الورقة، و تعلن بوضوح أنها غير ملزمة بها. أما البيان الذي اصدرته الخارجية الأمريكية بتوقيع مبعوثها الخاص الى سوريا السيد مايكل راتني، فلم يزد المسألة إلا غموضا و ضبابية، حيث وصف البيان ورقة دي ميستورا بالصفات التالية : “لا تشكل إتفاقا بين الهيئة العليا و النظام” ، “لا تمثل مرجعية جديدة للمفاوضات”، “ليست خارطة طريق”، و في نفس البيان ورد عنها بشكل متناقض عما سبق بأنها: “أرضية مشتركة”، “مجموعة من المبادئ تسترشد بها العملية”.

إقرأ أيضًا:  داعش يتراجع في سوريا والعراق ويتقدم في أوروبا‏

و رغم الزلات التكتيكية لوفد المعارضة، و عدم تبنيه بدايات تفاوضية ذات سقوف مرتفعة، إلا أنه من غير المتوقع أن يقوم بالتنازل حول تلك النقاط مستقبلا، و بالتالي فإن أجواء التفاؤل التي برزت خلال الأيام الماضية من غير المتوقع أن تدوم طويلا، و لن تلبث أن تطل الخلافات العميقة خلال الجولات القادمة حول الموضوع الجوهري و هو الإنتقال السياسي، مع عدم وجود أية مؤشرات تدل على إستعداد الأسد بالتنحي عن السلطة.

(تيار الغد السوري)

السابق
كراهية الزواج في آذار وبرج العقرب.. آخر الفتاوى الفيسبوكية
التالي
السبسي: غير معنيين بالصراع الشيعي السني وحزب الله مجاهد