في ذكرى محمد العبد الله

في وداع للراحل الكبير الشاعر والكاتب محمد العبد الله، ومحاولة منّا لتكريم مسيرته الإبداعيّة، نقوم بنشر نصوص ومقالات له نُشرت سابقاً على صفحات مجلة "شؤون جنوبية" الشهريّة على "موقع جنوبيّة"، بدءاً من اليوم والتي نستهلّها بالمقال التالي:

فراغ

في الأزمات السياسية اللبنانية ومنها أزمة الاستحقاق الرئاسي (رئاسة الجمهورية) والتي انتهت باتفاق الدوحة بعد ستة أشهر من الفراغ، ومنها أزمة الاستحقاق الحكومي الحالية والتي لا يعرف أحد متى ستنتهي، نشطت الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة نشاطاً شديداً، واستمتع الصحافيون والإعلاميون بمواد متتالية لمقالاتهم وتحليلاتهم ومقابلاتهم… وازدهروا ازدهاراً شديداً بالمبعوثين والمفاوضين العرب والدوليين.
الصحافة تزدهر وتستمع بالأزمات وإلاّ من دون أزمات، سيكون الوضع مضجراً ومأزوماً من الناحية الصحافية، فلا يكاد يجد أحدٌ من العاملين بالصحافة وأساطينها شيئاً يقوله أو يفعله مما يؤدي إلى البطالة الصحافية وما يترتّب على هذه البطالة من تهديد أسباب العيش نفسها. مثل ذلك مثل الشركات التي تُفلس عندما تصبح مصاريفها أكثر من إنتاجها، وقل مثل ذلك في المصانع والمتاجر… إلخ.

اقرأ أيضاً: بصمة ابداعية خالدة في ثقافتنا..في رحيل محمد العبدالله

صديقنا الصحافي “تحسين”، كان يعمل مراسلاً في بيروت لإذاعة فرنسا الدولية (R.F.I) وكان حين سؤاله: كيف الشغل؟ يتهلّلُ ويقول: ممتاز! عندما تكون جبهة الجنوب مشتعلة والقصف شغّال والقتلى والجرحى يتساقطون هنا وهناك. وأمّا عندما يجيب: الشغل عاطل هذه الأيام، فهذا يعني أن لا اشتباكات ولا قتلى ولا جرحى.
وكان تحسين يسمّي القتيل أو الجريح (حبّة) فيقول: اليوم عندنا سبع حبّات والحمد لله ويقول: اليوم ولا حبّة ألله وكيلك. الإذاعة تتطلب دائماً أحداثاً مهمّة، فمن أين أجيء بالأحداث؟ هل أصنع أنا الأحداث؟ فأذهبُ فأقصف وأطلق النار وأفتعل الاشتباكات؟!
وتحسين ليس عاشقاً للقتلى والجرحى والأحداث المؤلمة، بل هو رقيق وإنسانيّ وميّال للسلام. ولكنّ المسألة هي مسألة انحراف مهني يستغرق الشخص صاحب المهنة. ومثلُ ذلك مثلُ الطبيب الذي تسألهُ: كيف الشغل؟ فيجيب فرحاً وسعيداً: الحمد لله الشغل طايف طوفان، وذلك يعني أن الأمراض والأوبئة منتشرة ومتصاعدة والزبائن كثيرون. وأما إذا سألتهُ: كيف الشغل؟ إنشاالله مش ماشي الحال والمرضى قليلون؟ فينتبه ويضطرب ويجيب بانكسار وشيء من الخجل: وهل أنا الذي يُمرض الناس وينشر الأوبئة؟ أنا أقوم بعملي و… ويضطرب الطبيب مدركاً أن ازدهار عمله يقتضي انتشار الأمراض والأوبئة.

الفراغ الرئاسي
قلْ مثل ذلك في الصيدليّ الذي يبيع الأدوية. فهو يريدُ، مهنياً، أن يكون لديه أكبر عدد من الزبائن، يعني أكبر عدد من المرضى، بينما يهلع هو وزوجتهُ إذا أصابت أحد أولادهما نوبةٌ من السعال، ويبتهلان إلى الله شفاءً سريعاً للولد. إنحراف مهني يُنسي صاحب المهنة مشاعره وأفكاره وأخلاقه في غمرة الاستغراق المهني.
وبمناسبة الصيدلة والأدوية، ينبغي أن تتذكّر معي أنه في سنة 2007، كانت عائدات الأدوية المغشوشة في العالم حوالى 48 مليار دولار، وأنت تعلم تلك الحادثة التي تورّط فيها بعض الفرنسيين من أهل الطبّ والتمريض، عندما باعوا دماً فاسداً بمرض الإيدز للمستشفيات الليبيّة، ولا أريد أن أذكّرك بذلك التعليق الفظيع لأحد المسؤولين الفرنسيين على هذه الحادثة: بأنّ الأمر تمّ خارج الأراضي الفرنسيّة!!
ولقد سمعت، طبعاً، تصريحات الطبيب والنائب اللبناني إسماعيل سكريّة، بأن حوالى عشر مستشفيات في لبنان تقدّم لمرضى الأمراض المستعصية (سرطان مثلاً) أدوية (وهي أغلى الأدوية ثمناً) غير ذات مفعول، بل ليست أدوية بالمرّة، بل هي أنواعٌ من البودرة، أو أي مسحوق آخر يُصنع على شكل حبوب (كبسولات). وهنا لا يقتصر الأمر على أنه مجرّد انحراف مهني، بل انحراف أخلاقي.
إذن، ازدهرت الصحافة إبان أزمة الرئاسة اللبنانية أزمة الفراغ الرئاسي، وهي الآن مزدهرة إبان الأزمة الحكوميّة والفراغ الحكوميّ الذي قد يستمرّ إلى فترة صعبة على التقدير إذا فشل جميع المعنيين اللبنانيين والعرب والإقليميين والدوليين في تأمين التشكيل الحكوميّ وانفتح الوضع على المزيد من الفراغ، وهي أزمة تكاد أن تكون، أو هي بالفعل، أكثر وأشد “صحافية” من أزمة تأليف حكومة، والأزمتان متلازمتان، فكأنك قد وضعت وقوداً إضافياً لنيران كانت مشتعلةً أصلاً، فتوهّجت المقالات والتحليلات والمقابلات والتعليقات والازدهار. وسوف تسمع وتقرأ، يومياً، كلمة فراغ عشرات ومئات وآلاف المرات…
وإلى أن يقضي الله أمراً… تسألُ صديقك تحسين: كيف الشغل؟ فيجيب مزدهراً: الحمد لله، مش عم نلحّق. فراغ، فراغ رائع… فراغ مليء وطافح بالمقالات والفراغ!

السابق
العلامة الحاج يكرّم الأم في عيدها
التالي
السيد محمد حسن الأمين: ظاهرة التطرّف تواجه بـ«الإصلاح الديني»