التيه السني الكبير

مجلس التعاون الاستراتيجي، هو أحد نتائج القمة السعودية – التركية التي عقدت مؤخرا، وتأتي هذه الترقية للعلاقات بين البلدين في لحظة قاسية جدا، فباسم الحرب على الإرهاب وداعش في العراق، مارس الإيرانيون صراحة عبر الحرس الثوري، أو وكالة عبر ميليشيات الدولة العراقية وبقية حلفائها، تطهيرا عرقيا فاقعا ضد السنة، وفي الوقت نفسه، شاهدنا في لبنان قوافل المعارضة والشعب السوري تهجر من الزبداني عبر مطار بيروت، استمرارا لتطهير عرقي ضد السنة حصرا، وحتما تولى كبره بشار الأسد وما يسمى بحزب الله مسنودا بمباركة روسيا بوتين، أي أننا أمام نسخة إسرائيلية جديدة في العراق وفي سوريا وربما في لبنان مستقبلا، لكن إسرائيل الوليدة هذه المرة لن تكون صهيونية أو متهودة، إنما إيرانية تنتسب زورا إلى شيعة آل البيت عليهم السلام.

هذه الالتفاتة السعودية إلى تركيا ليست غريبة في ظل مسار العواصف التي تجرف المنطقة، وقد شاهدنا لفتة إماراتية مشجعة منذ أسابيع، إذ غرد الوزير الإماراتي اللامع أنور قرقاش في مواقع التواصل الاجتماعي “الخلاف التركي – الإماراتي حول التطورات المصرية آن الأوان لتجاوزه، فالمنطقة لا تتحمل مثل هذه الخلافات، والعلاقات الإيجابية والطيبة مع أنقرة هي ما ننشده”.

اقرا ايضًا: الموت في زمن الازدحام على طريق الجنّة

خلال عام مضى، زالت الشوائب التي أثرت سلبيا على العلاقة بين السعودية وتركيا بسبب مصر، فالقاهرة تسير في طريقها رغم وعورة الطريق وتشوش البوصلة، ومعركة الشرق الأوسط محتدمة في سوريا، وليست هناك فرصة لترف اختلاف أو تفصيل خلاف، إيران رفعت راية الإبادة الجماعية على السوريين قبل أن تكون على السنة والمعارضة كما فعلت سلفا في العراق، وحين وهنت قبضتها أسندها الروس، داعش مدت يدها على الغرب بعد العرب والمسلمين ومطامعها المدروسة وجرائمها المروعة مقلقة للجميع إلا إيران وبشار الأسد وإسرائيل.

إذن، في ظل وهن السياسة الأميركية أو اضطرابها أو باطنيتها، ليس أمام المنطقة إلا التلاحم المصلحي والتاريخي لمحاربة الإرهاب وإنقاذ الدولة وصد المطامع الإيرانية، والأهم هو ملء الفراغ الأميركي الذي يتسابق على سده الدخلاء، وإذ كانت إيران باغية، وإسرائيل مغرضة، وروسيا طامعة، ومصر مشغولة بنفسها، فليس أمام الخليج والعرب إلا تركيا أردوغان رغم كل علاتها ومساوئها، فنحن هنا لا نتحدث عن مصاهرة بين أسرتين، إنما مصالح وجودية مرتبطة بكيان المنطقة وهويتها ومستقبلها، لقد جربنا العمل من دون تركيا، وجربت تركيا العمل من دوننا أو ضدنا، اصطدمنا جميعا بجدار أصم فسبقنا الخصوم.

لا أعول على مجلس التعاون الاستراتيجي إلا إذا كان خطوة أولى في طريق طويلة، بل ليس هناك معيار يقيس نجاعته إلا مسار الأحداث المرتبطة بالثورة السورية المكلومة بتكاثر الأعداء وتوالدهم، فهذا بشار الأسد وهذه إيران وذاك ما يسمى بحزب الله وتلك روسيا وأولئك الدواعش ومن شابههم أو ناصرهم ووالاهم، ولن أتعجب إذا شاهدت أميركا وإسرائيل والصين وربما جنود قوات فيغا يقاتلون في صف الأسد مستقبلا.

مجلس التعاون الاستراتيجي ليس حلا بحد ذاته، فنحن أمام أزمات بنيوية تقض أطرافه، فالمملكة العربية السعودية لا تقدر قوتها السياسية حق قدرها، فهي تمتلك أسباب الزعامة لتتربع على عرش المنطقة ولا تستثمرها، وهناك سهام تطيش من كنانتها من دون تحقيق هدف، وهناك توجس في المنطقة إزاء معتقداتها المذهبية الجافة، وفي المقابل فإن تركيا تمثل النقيض السعودي، تبالغ في تقدير نفوذها بسبب عدم الاعتراف بعائق العجمة، تجيد تحديد الأهداف ولا تجيد الوصول إليها، ورغم التحفظ في المنطقة إزاء نفسها الإسلاموي يظل عمقها العلماني وتحررها الاجتماعي والثقافي – قياسا بالسعودية – رصيد نور، وما يجمع الأتراك والسعوديين هو التردد، أو الاكتفاء ببلوغ منتصف الطريق، يحار العقل التركي بين النفس الطوراني وبين الجين السني، ويضيع السعوديون على مستويين، الأول هو التناقض السلفي – السني، والثاني هو التناقض العربي – السلفي.

هذه الاستفهامات الحائرة في أهم دولتين سنيتين في المنطقة، أوجدت تيها سنيا كبيرا أشد مرارة من تيه بني إسرائيل، تجد السني في نطاقات الاستعمار الإيراني عربيا وإسلاميا متأملا برفع صورة العاهل السعودي أو صورة الزعيم التركي، ولا يلام على ذلك وهو يرى “الآخر” متسلحا بعمامة الخميني وأذنابه أو هراوة بوتين، ينتظر ويطول الانتظار، يتساءل لماذا تحققت عاصفة الحزم في اليمن ولم تقترب من سوريا أو لبنان أو العراق، وتساؤله موجع، يرى الصديق والقريب والجار مذبوحا على هويته إما متهما بالإرهاب أو متهما من الإرهاب، يرى دولته نفسها مهددة بالذوبان بحمض الميليشيا، وهذه المرة بدعوى صد إسرائيل، يراجع الخارطة وأوراقه الثبوتية ليتأكد أنه ليس إسرائيليا أو أنه ليس في إسرائيل، يلاحظ تصريحات أردوغان النارية والمتقلبة فيصاب بالدوار، ينتظر، وكلما انتظر تناقص وتقهقر، هو مقتول مقتول، إن لم تقتله إيران وأذنابها قتله الروس أو الدواعش، وإلا فسكين الذل تترصد اللاجئ والمهجر، وإن نجا من ذلك كله ذبحه الانتظار، يرضى بقدره فلا يتوقف القتل، يلجأ إلى خيارات حادة فيلاحقه القتل، لقد قتل بالفعل وسلم، لكنها ليست النهاية، لقد رضي القتيل ولم يرض القاتل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

(العرب)

السابق
اسرار الصحف المحلية الصادرة ليوم الخميس الواقع في 31 كانون الاول 2015
التالي
معاناة الحرب ترافق جرحى الزبداني وتعكس همجية النظام و«حزب الله» على المدينة