أمهلت قيادة الجيش سياسيي الترف.. فكانت المخارج لرواتب العسكريين

رلى موفق

في حضرة العسكر، تبدو الصورة مختلفة حيث لا مكان للمماحكات والتجاذبات السياسية التي تتخبّط فيها البلاد. استخدام رواتب العسكريين ورقة ضغط في البازار السياسي مرفوض رفضاً قاطعاً. رسالة وصلت إلى من يعنيهم الأمر. كان قائد الجيش العماد جان قهوجي جازماً وحاسماً في هذا الأمر. ولعلها من المرّات القليلة التي خرج فيها عن طوره، فأمهل سياسيي الترف حتى الاثنين الماضي لإيجاد ما يناسبهم من مخارج قانونية لتأمين الاعتمادات اللازمة. وهكذا كان. أُفرج عن رواتب العسكريين، ولكن هذه الواقعة أظهرت الدَرْك الذي وصلت إليه مؤسسات الدولة من شلل واضمحلال، وغياب «رجال الدولة» في الحكم رؤيةً ومفاهيم وبطانةً لصالح حالٍ من الاستهتار واللامبالاة يمارسه مَن يتولون السلطة راهناً. وكأن أزمة النفايات والضائقة الاجتماعية والتحديات الاقتصادية والمالية وما تحمله من مخاطر جمّة على البلاد لا تكفي ليمتد العبث إلى المؤسسة العسكرية من باب لقمة عيش العسكريين، في هذا الوقت بالذات.
ولعل الإحراج الذي يلمسه المرء لدى قهوجي يَكمن في أن استخدام مسألة رواتب العسكريين، كمادة ابتزاز في اللعبة السياسية الداخلية بين الأفرقاء المتنازعين، جاء فيما كان الجيش اللبناني يتلقى رسالة دعم أميركية أرادت واشنطن أن يكون صداها قوياً، بإعلانها من البيت الأبيض، وليس الاكتفاء بنقلها من خلال قنوات الخارجية الأميركية. رسالة جاءت على لسان الرئيس الأميركي باراك أوباما، عن تقديم كميات جديدة من الأسلحة الأميركية إلى القوات المسلحة اللبنانية في مجال مكافحة الإرهاب، في إشارة إلى الأهمية التي يوليها المسؤولون الأميركيون لنجاح الجيش في التصدّى للتنظيمات المسلحة المصنفة إرهابية المنتشرة على الحدود اللبنانية مع سوريا، وفي عمليات تفكيك الخلايا الإرهابية في الداخل. وهو نجاح يُسجّل للمؤسسة العسكرية واستخباراتها إلى جانب الأجهزة الأمنية الأخرى التي تحقق هي الأخرى نجاحات في هذا الإطار.
قهوجي، الذي شارك الأسبوع الماضي في اجتماع القادة العسكريين لدول التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، لمَسَ إصراراً واضحاً على أن الأولوية المطلقة هي لمكافحة هذة الظاهرة التي باتت تنذر بالتفشي كالطاعون في مناطق الصراع المستعرّ في الشرق الأوسط، وتضرب أوروبا وتمتد إلى مناطق بعيدة جغرافياً عن ساحة المواجهة المباشرة مع اجتذاب تنظيم «داعش» لمقاتلين من مختلف الجنسيات الأجنبية، وما يحمله ذلك من مخاطر على بلدانهم لدى عودتهم إليها.

اقرأ ايضًا: معركة رواتب العسكريين يحسمها «مرسوم سلام»
تجديد التحالف التأكيد على أولوية مكافحة الإرهاب دفع بالمجتمعين إلى مراجعة نقدية لمكامن الخلل التي اعترت عمل التحالف وكيفية سد الثغرات وتعزيز التنسيق، ووضع خطط متكاملة من أجل تحقيق نجاحات ملموسة. وهو عاد مرتاحاً ومدعمّاً بتقييم إيجابي وتقدير لجدّية الجيش والأجهزة اللبنانية في عملها على هذا الصعيد.
ارتياح تعززه، أولاً، الثقة بالقدرة على الإمساك بالوضع الأمني إلى حد كبير، رغم الحرائق المشتعلة حوله بفعل الأزمة السورية وتداعياتها على الداخل، والتحدّيات التي نشأت مع الأعداد الكبيرة للنازحين السوريين المنتشرة على مساحة جغرافية واسعة والتي تصعّب من إمكانات مراقبتها وضبطها. وتعززه ثانياً، القدرات العسكرية لدى الجيش المنتشر على الحدود الشرقية – الشمالية مع سوريا، حيث تتواجد في المناطق الجردية المتداخلة مع سوريا التنظيمات المسلحة المتطرفة وفي مقدمها «جبهة النصرة» و«داعش». فالوضع العسكري الراهن على الحدود لا يقلق قائد الجيش لكنه يبدي حذراً من مسار التطورات الميدانية الأخيرة على المقلب السوري بين قوات النظام والتنظيمات المتطرفة، ولا سيما بعد سيطرة «داعش» منذ عدة أيام على بلدة «مهين» جنوب محافظة حمص، والتي تعد تطوراً مهماً على صعيد تغيير قواعد الميدان، إذا ما نجح في استكمال السيطرة على بلدة «صدد» التي يسيطر بها على أوتوستراد دمشق – حمص الدولي، وتفتح له طريق التمدّد باتجاه الاتصال مع التنظيمات الإرهابية على الحدود الشرقية – الشمالية للبنان. هذا الحذر يدفع إلى السؤال عما يمكن أن يفعله الجيش، لكنه يرد: «إذا وصلنا إلى تلك المرحلة، سنجد عندها الطريقة التي نتعامل بها». يكتفي بتلك الإجابة، لكن العائد لتوه من اجتماع للتحالف الدولي لمكافحة «داعش» لا بد من أن تكون «خطط ما» في جعبته.
وفي مقارنة لقدرات الجيش بين 2012 و2015، فإن فارقاً كبيراً يُمكن الحديث عنه، لا سيما على مستوى الأسلحة الذكية والتقنيات الحديثة وعمليات الترقب والرصد. يقول قهوجي «إن مستوى جهوزية الجيش اللبناني ممتاز. نخن لا نتحدث هنا عن مستوى تجهيزنا في مقابل الخطر الإسرائيلي. فجيوش عربية كثيرة غير متكافئة مع إسرائيل. نحن نتحدث عن قدراتنا في حماية أمن لبنان من خطر الإرهاب والتي هي قدرات عالية. ولكننا، كأي جيش، لا يمكننا أن نصل إلى مرحلة الاكتفاء، فعملية التسليح والتطوير هي عملية متواصلة لا تتوقف عند حد معين. ويطمح لبنان إلى تعزيز قدرات سلاح الجو على مستوى مروحياته التي من شأنها أن توفر غطاءً جوياً لخطوط الدفاع ولأي عمليات هجومية حين تقتضي الحاجة».
السلاح الذي يُمدّ به الجيش هو في غالبيته أميركي الصنع. طبعاً يعوّل لبنان على صفقة الأسلحة الفرنسية المموّلة من الهبة السعودية، ولكن ما وصل منها هو 47 صاروخ «ميلان». كان ثمة تجميد لملف الصفقة قد حصل بطلب من السعودية لاعتبارات داخلية في المملكة. وقد وصله أن الصفقة أعيد إحياؤها، والشركة الوسيطة «أوداس» لديها مكاتب في وزارة الدفاع وتنسّق مع المعنيين في المؤسسة. لكنه في انتظار أن تترجم العقود إلى واقع ملموس بتسلّم دفعة جديدة من الأسلحة.
قهوجي ينأى بنفسه عن الخوض في الملفات السياسية، ولا سيما منها الاستحقاق الرئاسي، حيث يُتداول اسمه من ضمن الأسماء المقترحة لسدّة الرئاسة، ربما لأن المرشحين من ذوي الحظوظ يعتصمون دائماً بالصمت، لكنه بالمقابل يُدرك مدى المسؤولية الملقاة على عاتقه على رأس المؤسسة العسكرية في لحظة التحوّلات الكبرى التي تجري في المنطقة. جل ما يهمه هو الحفاظ على الجيش ببعده الوطني، وإبعاده عن الانقسامات السياسية، من أجل حماية الكيان والنظام في وقت تشهد الساحات الملتهبة المحيطة تفككاً وتشرذماً في جيوشها وأنظمتها، وتواجه خطر تبدّل معالم كياناتها. ولا يُخفي مَن يلتقيهم مِن مسؤولين إقليميين ودوليين رهانهم على أن يُشكّل النظام اللبناني الحالي، المنبثق من «اتفاق الطائف» كتسوية لسنوات طويلة من الحروب الأهلية، النموذج الذي لا بد من اعتماده لحل الأزمات في الدول المجاورة التي تشهد حروباً أهلية، بعد تشذيبه من الثغرات التي تعتريه!

(اللواء)

السابق
تدابير سير لمناسبة سباق بيروت ماراثون في 8 الحالي
التالي
بالفيديو: ضرير يكشف أمانة المارة.. شاهدوا النتيجة!