بين الجهل والحقد الطبقي

محمد علي مقلد

رداً على الربيع اللبناني أطلق أحد رجال الأعمال تصريحات نارية ضد من أسماهم بقايا الشيوعية، ممن يريدون تحويل أسواق بيروت “الراقية” إلى أسواق رخيصة،(أبو رخوصة)، فأثار زوبعة من الردود في حملة إعلامية وفي هجوم على قلب العاصمة بغية تحويله إلى سوق شعبية. لا زوبعة أبو رخوصة كانت زلة لسان ولا الرد عليها كان زلة قدم نحو ساحة رياض الصلح، بل هما جهل طبقي لا ينتج عنه غير الحقد الطبقي. جهل وحقد تزرعهما السياسة في العقول، حتى في عقول من حازوا على درجات عالية من العلم، فكيف بغيرهم؟ من أطلق الزوبعة ومن رد عليها، كلاهما اختزل الشيوعية بالصراع الطبقي. لكن الشيوعية ليست فحسب صراعاً، بل هي قبل ذلك قيم ومثل عليا وأحلام جميلة وتضحية ونكران ذات وسعي في سبيل سعادة الانسان ورفع كل أنواع الظلم عنه. قد يكون معتنقوها أخطأوا رسم خارطة الطريق، لكنهم لم يضيعوا بوصلة النضال الأممي بهدف القضاء على أسباب الشقاء البشري، ومن بينها استغلال الانسان للانسان.

رجل الزوبعة يجهل أن كتاب رأس المال لماركس ينفد من الأسواق في كل مرة يقع فيها النظام الرأسمالي في أزمة، وأن علماء الاقتصاد وسياسيي الأنظمة الرأسمالية لا يجدون سواه دليلاً ليشخصوا أسباب تعثر النظام، إذ هو معلم علمي لم يتيسر لكتاب آخر أو عالم آخر أن يقفز فوقه أو أن يتجاوزه. ولم يلفت نظره أحد إلى أن استطلاعات الرأي وضعت ماركس في رأس لائحة المفكرين الأكثر تأثيراً خلال القرنين المنصرمين، اللذين أنجبت البشرية خلالهما أبرز الفنانين والشعراء والأدباء والفلاسفة من مستلهمي الفلسفة الماركسية والعقيدة الشيوعية. ويجهل أن الستالينية ليست فحسب قمعاً وإرهاباً وعنفاً، بل هي الانتصار الملحمي على النازية وجعل الاتحاد السوفياتي قوة عظمى في فترة لم تتجاوز العشرين عاماً، وأن الشيوعية ليست الستالينية بل هي كسب السبق بالوصول إلى القمر، وهي قوة المثال التي بوهجها تحققت أعلى نسبة من العدالة الاجتماعية وأفضل الضمانات الاجتماعية حتى في البلدان الرأسمالية. ويجهل أن اليسار حاجة للوطن ولكل الأوطان ليبقى بمثابة الضمير المصفى من المصالح. وبما أن كل من انتمى بصدق إلى الشيوعية يشعر أنه جزء من هذا الضمير، بدا الكلام عن بقايا الشيوعية كأنه طعنة في كرامة ذاك الضمير الذي لا يزال حياً حتى في نفوس من لم يعودوا منتظمين في صفوف الحركة الشيوعية، بل حتى في نفوس من ابتعدوا عنها المسافة الكافية لتعلم دروس الماضي من غير ندم على نضال شريف.

إذا كان التعرض للفكرة ينطوي على مساس بالقيم لا بالقيادات التي تزعم تجسيد الفكرة، فلا شيء يفسر رعونة الكلام عن فكرة الشيوعية بهذه الطريقة ولا الحقد عليها غير الجهل بها. ولم يخطئ من قال إن الانسان عدو ما يجهل. غير أن الرد على الرعونة برعونة مضاعفة، ينم عن جهل مضاعف. أولاً ليس من الماركسية في شيء القول إن الصراع الطبقي هو بين الفقراء والأغنياء، أو القول إنه سعي من جانب الفقراء لتعميم الفقر، إذ ليس الموقع الطبقي هو الذي يحدد طبيعة الصراع، بل وعي المرء لموقعه الطبقي. من لم يقرأ ما قيل في الماركسية عن الطبقة بذاتها والطبقة لذاتها، لا يمكن أن يتموضع داخل الصراع الطبقي تموضعاً صحيحاً.

الطبقة العاملة التي لا تعي موقعها الطبقي تتموضع ضد مصالحها، ولهذا قد تجد في أتون الحروب عمالاً يتواجهون على جانبي الجبهة. ما ينقصهم، في العلم الماركسي هو الوعي الطبقي. وليس لينينيا القول إن الموقف من رأس المال هو هو الموقف من الرأسمالي. رأسماليون كثر كانوا مناصرين للحركة الشيوعية في أوجها. والرأسمالي بشر كسائر البشر، قد يكون كريماً أو بخيلاً، شجاعاً أو جباناً، حكيماً أو أحمق، حسوداً أو محباً، قنوعاً أو نهماً، سارقاً أو أميناً… رأس المال وحده لا يحيا إلا بالتراكم، أي بالنهب. وحين ينهب يميل إلى التوحش. لهذا قد تجد رأسماليين متوحشين ورأسماليين إنسانيين، وليس من الجائز أن يتعاملوا كلهم “يعني كلهم” بصفتهم حيتان المال. الرأسمالية حضارة وعمران وعلم ورفاهية، وهي في الوقت ذاته تفاوت طبقي. وليس ماركسياً من يتعامل مع الرأسمالية بصفتها عاهة أو مرحلة نافلة من التاريخ. ماركس قال عنها في البيان الشيوعي إنها ثورة تقدمية بكل ما تعنيه الكلمة. ومجافاة الحضارة الرأسمالية بدعة تأسست على جهل ستالين، لا على معرفته، بالماركسية.

فهو قتل استاذه في الماركسية غداة آخر محاضرة، ليرسخ في العقل الشيوعي الجامد موقفاً من الثقافة والمثقفين والعلم والمتعلمين. والرأسمالية ليست الداون تاون ولا الزيتونة باي(أحياء راقية في بيروت) بل هي علاقات انتاج تمتد من أول نقطة عرق على جبين العامل إلى آخر قيمة زائدة ينهبها رأس المال، ومن أول الحدود الوطنية إلى آخر اليابسة وأعماق المحيطات والفضاء. الشانزيليزيه وبرج إيفل كما الكرملين ليست ملك صانعيها بل رموز حضارة سلفت، وهي غدت ملك الوطن ومفخرته وتراثه وآثاره الخالدة. هذا ما فعله الشيوعيون بالقصر الشتوي، قصر القيصر. لم يهدموه بل رمموه. كما أن الاشتراكية ليست التساوي بالفقر بل بالرفاهية. لهذا ليس من الشيوعية ولا من الاشتراكية في شيء تحويل ساحة رياض الصلح والأحياء الغنية في بيروت إلى أسواق شعبية. يكفي الشيوعيين إثماً أنهم تعاونوا ذات مرة مع من عمل على هدمها ونهبها. في المرة الأولى قد يكون الوهم نبيلاً، تمويل الثورة. في الثانية ليس سوى الحقد، حقد الجهل، لأن الانسان عدو ما يجهل. المطلب المعقول هو تنظيم أسواق شعبية،كما في باريس أو موسكو أو أية عاصمة أخرى، يعرض فيها الفلاحون والمزارعون والحرفيون منتوجاتهم مرتين في الشهر أو أكثر.

في هذا الربيع اللبناني، كما في كل ربيع، الاستبداد هو العدو. المستبد ينهب عرق الفقير ومال الغني. الرأسماليون كما اليساريون، يمكن أن يقعوا ضحايا الاستبداد كما يمكن أن يناصروه. الأمر متوقف على الوعي، وعي الموقع السياسي والطبقي، ووعيهم لمصلحة الشعب والوطن.

(المدن)

السابق
ما هي أسباب التغيير المفاجئ لموقف أردوغان من الاسد؟
التالي
أماكن في العالم يُحذّر دخولها…