هذيان وفصام بين تظاهرتين: «يسقط يسقط الشعب الأرعن»

^ السبت في التاسع والعشرين من آب العام 2015
جاءت معذِّبَّتي في غيهب الغسق
كَأنَّهَا الكَوْكَبُ الدُرِّيُّ فِي الأُفُقِ
فَقُلْتُ نَوَّرْتِنِي يَا خَيْرَ زَائِرَةٍ
أمَا خَشِيتِ مِنَ الحُرَّاسِ فِي الطُّرُقِ
فَجَاوَبَتْنِي ودَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُهَا
مَنْ يَرْكَبِ البَحْرَ لا يَخْشَى مِنَ الغَرَقِ
(لسان الدين بن الخطيب… الغرناطي
أي أنّه ولد ونشأ في غرناطة الأندلس)

يدعو الشاب الثلاثيني، المتحمّس، صادقاً، بوجهه الذي يشبه وجوهنا كلّها، إلى رفع القبضات عالياً والهتاف بصوت واحد «الشعب.. يريد.. إسقاط.. النظام..».
كما لو كان قد أصابها الشلل، تسعى كَفِّي للتكوّر فتعجزُ، أمّا ذراعِي فتتجمّدُ. وكمن أُوصِد بكاتمٍ، يسعى صوتي للهتاف، فيصمت.
وحدها دموع العينين تنزل من دون طلب.
«الشعب»: هنا الشعب.
يريد: «شعبي بات يهتف في الساحات ما يريده».
«إسقاط النظام»: شعبي بات يهتف، جهاراً نهاراً، أطفالاً وشيباً، نساءً وشباناً، سيداتٍ وفتياناً، بأنّ ما يكبّله هو «النظام»، نظام خصخصة الشعب.
أَنْظُرُ من حولي. هذه ليست المحروسة التي لم تخذل خالد سعيد (ولو لأعوام)، ولا هي بلاد الياسمين المشتعلة بومض جسد البو عزيزي. هنا شقق فخمة للبيع، وبيوت أثرية تُزال وتُثبت أمام أسوارها صور لأبراج زجاجيّة مستقبليّة. هنا وجوه المتظاهرين تنشغل، بغير قصد، في خلال مسارها، بمشهد مبنى فاخرٍ هنا، وبيت فخمٍ هناك، في شوارع لم يعهدها الأكبر سنّا من بينهم، إلّا لمّا كانت متداعيّة، مأوى للمهجّرين، في الحيّ المسمّى وادي أبو جميل.
تسعى يدي لأن تتكوّر مجدداً، وتسرق لحظةً، لحظة واحدة من لحظات «الشعب يريد»، على ما آلت إليه في كل مكان، على ما ستؤول إليه في هذا المكان. تعجز. يبقى صوتي مخنوقاً داخل حنجرتي، وعقلي يأبى أن يكفّ عن التساؤل. أشعر كمن ينزل إلى الشارع للمرّة الأولى في حياته، فيظنّ أن كلّ الموجودين لا ينظرون إلى سواه، ويصبح جسده وما يأتيه من حركة، عبئاً عليه.
أكتشف أنّني الآن، هنا، في التظاهرة التي كنت أبحث عنها منذ أن تشكّل وعيي، عاجزة وخائفة، ألجُم، ولو لحظة واحدة من القدرة على الإيمان، أنّني أنتمي. كان وقت، قبل أعوام، بشعة، عجاف، ملأت حشودٌ الساحات. يومها، كنت أبحث عن حشدٍ أتَمَاهى مع متظاهريه، إلّا أنّي تهت ولم أجد.
الآن، هنا، في وسط الحشد الذي له أنتمي، أشعر بأنّني أكون. بأنّني سأصير.
الآن، هنا، أجد «حشدي». إلّا أنّ ذراعي تبقى متسمّرة، وصوتي يتوه منّي، أسعى لصهره بهتافات حناجر من يطلقون شعاراتي، فيخيب سعيي، وأعجز عن رفع قبضتي عالياً في «وجه ظُلّامي»، جنباً إلى جنب أبناء «حشدي» الذي لعيونه لون عينيَّ، فيما لون أحلامه يشبه وجه ابنتي، وشكل غدها.
يبدو أنّه لم يعد في العمر من متَّسع لاستعادة اليقين، ولا في الجسد ما يكفي من زادٍ لاستكمال المسار الطويل، والذّي هو بالكاد قد ابتدأ، إن كان فعلاً قد بدأ، قبل أن ينجح «أعداء الحياة» في إحكام حبك خطّة وأده، إن لم يكن قد وئد بعد.
سنواتي الكثيرة تشدّني إلى الخلف، وتلقي بي خارج الحشد.
«شعبي»… «يريد»… «تغيير»… «النظام»، وعتاة «النظام» يتعازمون على «الحوار»، على التحاور في ما بينهم، لإعادة تشكيل «النظام»، في ما بينهم. «شايفُه عَ النِظام مش عم يمشي، غَيّر لُه النظام».
هذه ليست أرض محاصصة، هذه أرض خصخصة بامتياز. «الشعب» ملك خاص لأركان «النظام». هذه الأرض ليست مشاعاً عاماً، هذه مجموعة من الأراضي الخاصّة، وكلّ من ولد فوق رقعة منّها يُضحي ملكاً خاصاً لصاحب «الأرض ـ النظام ـ الإقطاع ـ الجمهورية ـ البلاد ـ الطائفة». فليسمّوها هم ما شاؤوا، ما داموا ملّاكها.
أمّا «حشدي»، فأصبى منّي. أبناء «حشدي» صنّاع حياة.

ولن نرحلَ.
^ أمّة واحدة
«إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن
أن يكون نهاية التاريخ…».
(سعد الله ونوس)
دمِّروا كلَّ الرموز التي تدّل على استثنائيّة ما كنّا عليه. ما شُيِّد في فنون البناء، والموسيقى، والأدب، والعلوم، والفلسفة، والفكر، والتلاقّي، ومعنى الحياة.
دمِّروا رموزَ الحضارات كلّها التّي أَثّْرَت في كلّ من هنا، وما هنا، على أرضنا. تلك التّي أتتنا في حملات فأثّرنا فيها على قدر ما أثّرت فينا، والحضارات التّي حملناها إلى جهات الأرض الأربع.
أحرقوا الأشجار والغابات. اقتلوا البشر، وأمعنوا في اختيار أصغرهم وأضعفهم، كلّ من هو قادر على صناعة الغدّ.
أعيدوا إحياء طقوس مجرمي الجاهلية وامحوا ما أرساه محمد ودينه، ومن قبله عيسى ودينه، من خير وعدالة (اجتماعية)، واذبحوا مَن بايع ابن مريم، ومَن لم يرَ في محمد ما ترونه، وأبيدوا من رأى خيراً في معتقدات وممارسات من خارج الإسلام والمسيحيّة.
أحرقوا كلّ شيء. سوّوا بالأرض كل شيء كان منتصباً يروي مجد أمّة اندثرت أصلاً.
خلّفوا أرضاً محروقة، اقتلعوا الخيرات من جوفها. اقتلوا أبناءها. لا تتركوا ما له علاقة بمن كنّا، أو كان يمكن أن نكون.
بعدها، تنشّقوا رائحة الخراب. حَلُّوا أعينكم بما لم يعد قائماً، وارقصوا كالمشعوذين فوق بقايانا، ثم امضوا إلى قبوركم ممتلئين بوعود أبدية لا تُنسى، ولن تُنسى، ولا تعودوا.

هذه أمّة تستحق فظائعكم.
هذه أمّة أمعنت في الاتكاء على ماضٍ ولّى، وتاهت عن يومها ومحت غدها، لما شوهتّه حتّى قبل أن تسعى لأن تكون.
هذه الأمّة الوحيدة في التاريخ التي تؤمن بأن ما كان هو حُكماً أفضل ممّا سيكون. راكمت أمجاد أجدادها، تربّعت فوقها حتى طمستها، وجلست تحيك حاضراً وغداً هجينين. أمّةٌ تاهَت عن هويتها، عن قضاياها، وسلّمت رقاب أبنائها لسفهة جهلة، يحكمون كلّ قطر فيها اليوم، يفرحون بصوت الدنانير ترنّ كلّما ألقوا بالمزيد منها في أكياس من خيش يخبّئونها تحت وساداتهم الوثيرة. دنانير انتزعت من أفواه الأطفال، من علاجاتهم، ومن مدارسهم، من جدران كان يمكن أنّ تتحوّل إلى منازل تحضنهم، من حقهم بالمعرفة، من حقهم بالحرّية، من كلّ ما هو لازم ليرسموا مستقبلهم.
إنّها أمّة واحدة. دواعش الحروب ليسوا أسوأ من دواعش الأنظّمة كثيراً. والأخيرون ليسوا أفضل منهم في شيء. تختلف وسائلهم، والهدف واحد: وأد الغد، حجب نور الشمس، كي يسود العطش… والغريزة والجهل، والألم الذي يمعن في الغوص في جوف كل مَن لم يترك هذه الأرض.
ربّما نموت كلّنا من شدّة الألم قبل أن تصل سيوفكم إلى رقاب أطفالنا. ربّما تكون تلك ميتة أشرف وأنبل.
نسدّد ثمن الأسلحة التّي تشترونها منهم ليقتل بها كلٌّ منّا الآخر، ثمّ نسدد ثمن الأصفاد التّي تُغلقون بها «أبواب الحارات» كلّها. تشيّدون جدران عزل على مدّ النظر. عزل مذهبي، عزل طبقي، عزل غرائزي، عزل جغرافي: هنا، ونحن من أفقركم، بتنا في «الجدار الرقم 2»، لمّا استُبدل الاسمنت بالمعدن والأسلاك الشائكة.

أمّا هناك، في أرض النبوءات الواقعة إلى جنوبنا، فيُمعِنُ مَن لم يعرف إلّا فكر «الغيتو» في إعلاء الجدران التي ربّما في يوم تخنقه.
^ بلاد التيه أوطاني
قد جئتُ من حَلَبٍ وإنّي لا أعود إلى العراقِ
سَقَطَ الشمالُ فلا أُلاقي
غير هذا الدرب
يَسَحبُني إلى نفسي… والبحر ]
(محمود درويش)
توصدون «أبواب الحارة»، ونسدّد نحن ثمن «تهريب» الغد إلى دول تحتاج لمن هم مثلنا ينبضون مهارة وشباباً وحياة.
توصدون أبواب الحارّة»، ثمّ تطلقون «القوم»، كلّهم، نحو تيه البحار.
فلتأخذهم الرياح إلى حيث تشاء من أصقاع الأرض، أو من صقيع التيه، أو من جماد الموت لافتقارهم لحياة كانوا سيحبونها «لو أنّهم استطاعوا إليها سبيلاً…».
ذات يوم من صيف 2015، وحدها الأمواج كانت تتحرّك مدّا وجزراً عند الشاطئ الغريب، على الأرض التّي بلا اسم، حيث يتكئ الرضيع برأسه نحو اليسار، وينام على معدته كعادة مَن هم في سنّه. سيبقى هنا، نائماً، بلا حراك، بلا بكاء، فيما الأمواج ستُكمل تلاطمها، بلطف حيناً وبعنف في أحيان، بحسب الرياح التي تأتي بها. ربّما تحمل في نسائمها بعضاً من رائحة مهد الوليد الذّي ولد تحت النار ورحل عند زبد المياه.
مثله، بقي هادي، قبله بنحو 14 عاماً، في الخامس عشر من تمّوز العام 2006، مستلقياً على معدته، ووجهه المعفّر بالتراب يتّجه يساراً، خلال عودته في الشاحنة وأفراد أسرته إلى قريته مروحين، في جنوب لبنان، بعدما رفضت قاعدة للأممّ المتحدة استقبالهم خوفاً على قواتها من نيران الحرب. يومها، ألقته صواريخ إسرائيل بين أشواك البراري وحجارتها الناتئة، بعيداً جدّا عن البحر. هناك، لم تُطبق عيناه، ولكنّه ظلّ نائماً إلى الأبد.
على عكسهما، لم تنم هدى غالية. لم تمت، لكنّ هناك شكاً كبيراً في أن تكون قدّ تمكّنت من استرداد أيّ شيء يشبه الحياة.
وحدها، تركتها القذائف الإسرائيلية الثمانيّ، في التاسع من حزيران العام 2006، عند شاطئ غزّة، تصرخ منادية أباها. كانت في العاشرة. «بابا، بابا»، كانت تصرخ وسط رمال يمّ غزّة. قذائف حصدت سبعة من أفراد أسرتها، وثلاثة آخرين. قذائف رمتها يتيمة على رمال شاطئ غزّة.
مثلهم، أو على عكسهم، يتأرجح أطفال العرب، من صنعاء إلى موريتانيا، من السودان إلى بلاد الرافدين، بين موت وفتات حياة، بقذائف «صديقة»، وأخرى «معاديّة»، وبأسلحة أشدّ فتكاً تحمل أسماء عدّة: غربة، جوع، عوز، احتراق في الخيم، جهل، تهريب بحري وبرّي، اعتداءات جنسيّة، …… نحرُ لأيّ غد من الوريد إلى الوريد.

^ أمّا بعد، وكما قال الشاعر…

كانت لارا في السابعة عشرة، في العام 1989، حين انفجرت سيّارة مفخّخة بالقرب من مدرستها في بيروت. هكذا، وبغفلة من حياة أمّها ماغي وأبيها غسّان، رحلت لارا، وحيدتهما. يقول غسّان مطر، في مقابلة إذاعيّة في العام 2015، إنّهما، زوجته وهو، قرّرا، في مواجهة المصيبة، إمّا وضع حدّ لحياة كلّ منهما، أو وضع حدّ لأيّ نوع من أنواع الشفقة التي يمكن أن تواجههما، عبر ارتداء قناع حديدي في مواجهة الآخرين كلّهم، «حفاظاً على ما تبّقى من كرامتنا، كبشر…».
إلّا أنّه فعل ما هو أكثر من ذلك، غسّان مطر.

كتب ليارا، الشهيدة، يقول:
وكم قلت لا… بلادي بلادي فلن أرحلا،
وكانت تُحاصرُ خَدّيكِ نارٌ فأًخشى على الوردِ أن يَذبُلا
وأصرخ لا … بلادي بلادي ولن أرحلا
ويتّسع القبرُ حولي فأغمُرُ عينيك خوفا
وتُوشِكُ عيناكِ أنّ تسْأَلا فأصرخُ لا
بلادي بلادي ولن أرحلا
وها ان انْكَسَرَت تحتيَ الأرضُ
واختطفتك بلادي
وأطْفَأَتِ الحلمَ الأجملا
وما زلت أصرخ.. أصرخ لا
بلادي بلادي ولن أرحل
فما دام قبرك صار بلادي
فلن أرحلا فلن أرحلا
كَتَبَ ذلك والدٌ أثكلته الحربُ الأهليّة وحيدَته. الحرب الأهليّة التي ما زال أمراؤها هم رموز نظام اليّوم.
أمّا أبناءُ الحيّاة، أعداء النّظام، الذّين يقتلهم أمراء الحرب «سلميّاً» اليوم، فمن بينهم مَن قرّر، واستطاع، ألّا يرحل، بل أنّ يحتل المساحات التي خلّفها غيابه القسريّ الطويل، لكي يهتف:
موطني مـوطني
…..
الحـياة والنـجاة والهـناء والرجـاء
فــي هـــواك فــي هـــواك
هـــــل أراك؟ هـــــل أراك؟
سـالماً مـنـعـماً وغانـماً مكرّما
…..
مــوطني مــوطني
الحسام واليراع لا الكلام والنزاع
….
عـــــــزّنا عـــزّنا
غاية تـشــرّف ورايـة ترفـرف
يا هـــنــاك فـي عـــلاك
قاهراً عـــداك قاهـراً عــداك..
…….
قهر العدى؟ ولن نرحلَ.
هنادي سلمان
] في قصيدة درويش، يقول الشطر يسحبني إلى نفسي …
ومصر (المفتقدة)

(السفير)

السابق
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الأربعاء في 9 ايلول 2015
التالي
الصليب الأحمر نقل 507 حالات من جراء العاصفة الرملية