«المجتمع المدني» علامة مُضيئة… ومُخيفة!

اعتصام حملة “طلعت ريحتكم” علامة مضيئة في لبنان الذي استكانت “شعوبه” رغم معاناتها على أيدي الغالبية الساحقة من سياسييها وقادتها وزعمائها وأحزابها. ويكمن ضوؤها في قرارها الجريء النزول إلى الشارع وفي تمتعها بالجرأة والشجاعة وروح التحدي والاستعداد للتضحية. ويكمن ايضاً في اشتراك مواطنين من كل شعوب لبنان في الاعتصام متجاوزين بذلك الخلافات والتناقضات السياسية – الدينية – المذهبية – الحزبية. لكن اعتصام الأمس كان في الوقت نفسه علامة خطيرة ومُقلقة وربما مُخيفة. والأسباب كثيرة أهمها الآتي:
1 – يجب تشجيع “المجتمع المدني”، الذي يحبه اللبنانيون في الإعلام والجلسات الخاصّة ولكن الذي يمتنعون عن تشجيعه عملياً، بالانخراط فيه وبالوقوف وراءه ولا سيما في ظل غياب الأحزاب الوطنية في بلادهم جراء سيطرة التيارات والحركات والأحزاب والشخصيات. ذلك أنه قد يكون البديل أو بالأحرى يجب أن يكون البديل. لكن الأسئلة التي تطرح هنا هي: هل يمتلك خطة؟ وما هي؟ وهل التقت جمعياته وعددها بالآلاف على ما يقال أو غالبيتها، واتفقت على برنامج عمل ووضعت مشروعاً وخطة تنفيذية له؟ والجواب هو طبعاً كلا. ولماذا اقتصرت نشاطاتها وتقتصر على “تظاهرات” رياضية وانسانية واستعراضية و”مآدبية”، علماً ان ريعها على ما يقال هو لأعمال خيرية؟ ولماذا أخفقت حتى الآن في حشد 400 ألف متظاهر او نصفهم اذا كان عدد المنتسبين إلى كل منها يراوح بين 50 و100 شخص؟ هل لأن بعضها يستخدمها للوجاهة، وبعضها الآخر منصة لتحقيق طموح سياسي، وبعضها الثالث مناسبة لاستفادة مادية جراء مساعدات تتلقاها من جهات داخلية واقليمية ودولية؟ وهل يمكن استعمال البعض الأخير هذا من دون ان يدري لأغراض “غير وطنية”؟
2 – المتظاهرون بالعشرات قبل أيام الذين صاروا يوم السبت بين 2000 و5000 أكَّدوا النقمة على الفساد، وعلى الطبقة السياسية بكل فئاتها، وعلى مجلسي النواب والحكومة، وانطلقوا من النفايات للبدء في تحركهم. لكنهم كانوا كما يقول المثل اللبناني من كل واد عصا. بعضهم كبّر الحجر، بعد اقتناعه بعطف الجمهور المتابع للمتظاهرين من على شاشات التلفزيون، فوصل إلى حد الرغبة في اجتياح مجلس النواب وربما السرايا الحكومية، ولاحقاً إلى تأكيد الاستمرار في الشارع حتى استقالة مجلسي النواب والوزراء. علماً أن آخرين رفعوا مطالب أخرى بعضها يطالب بتغيير المنظومة الدولية، وبعضها الآخر استغل التظاهرة ليطالب بحقوق فعلية له وفي الوقت نفسه للترويج لنظام جديد فشلت مثيلاته في العالم، أو لنظام لا يعرف ما هو أو لثورة قد تتحول فتنة. فهل أرادت “طلعت ريحتكم” الفتنة؟ طبعاً لا. مطالبها أكثر تواضعا لكنها كانت عاجزة بسبب حجمها عن إدارة التظاهرة في الاتجاه الذي تريد، بدليل تأكيد بعضها ليل السبت ان المتظاهرين سيخرجون من الشارع فور الافراج عن المعتقلين منهم ليعودوا إليه غداً. لكن ذلك لم يحصل رغم ان قسماً منهم غادر “الساحة”. ألا يعرف هؤلاء أن مندسين قد يحوّلون التظاهرة فوضى وفتنة واشتباكات؟ وهل كان هناك من يستدرج القوى الأمنية للتحرك عن حماسة أو تهوّر أو غاية مبيّتة؟ وهل القوى المذكورة هاجمت المتظاهرين قبل محاولة تخطّيهم الأسلاك الشائكة أو بعدها؟ وإطلاق الرصاص الحي وهو خطأ من أمر به؟ ولماذا؟ وهل المطلوب دفع البلاد إلى فتنة دائمة يتسلم خلالها الجيش والقوى الأمنية السلطة؟ وهل يستطيعون؟ أو اسقاط النظام الذي لم يبق فيه شيء والتمهيد لنظام آخر؟ أو تأجيج النار بين السنة والشيعة من خلال شعارات وإن قليلة، وتغطيات إعلامية متحمِّسة أو مشاركة في التظاهرة أو متواطئة عليها؟ ماذا لو قرر مؤيِّدو الرئيس نبيه بري من “شعبه” التحرك بعد “البهدلة” التي “أكلها” من المتظاهرين؟
في النهاية أقول لمواطنيّ في “المجتمع المدني” وللمتظاهرين أنني كنت دائماً ضد النظام الطائفي والاقطاع السياسي والاحزاب التي ليست أحزاباً وضد السرقة والهدر والفساد والمحاصصة، ولا أزال. لكن مكافحة ذلك لا تتم بالارتجال الذي يوقع أصحابه في مخططات المطلوب التخلص منهم وكل الذين يريدون شراً بلبنان، بل بالتخطيط والتجمّع ونبذ الطائفية فكراً وقولاً. فدولة لبنان صارت “تفليسة”. والطبقة السياسية الفاسدة غالبيتها وكيلة “التفليسة”. وفي العالم الثالث الوكيل لا يصحِّح بل “يأكُل”. فهل تدفع الدولة إلى السقوط التام بعد شلل وتعطيل طويلين ويتهدّد بذلك الوطن والكيان؟

(النهار)

السابق
قوى الأمن: المعلومات المتداولة حول وفاة شخص إسمه رضى طالب غير صحيحة
التالي
سرقوا القصر مني