«أنصار الله» و«حزب الله»: موت النموذج

ليست هذه المرة الأولى خلال عامين على الأقلّ التي يتسبَّب فيها الأمين العام لتنظيم «أنصار الله»، بنوع من الارباك لـ»حزب الله». قبل أشهر عدة أعلن جمال سليمان قطع علاقته بالحزب، ثمّ ما لبث أن عاد عن موقفه بعد تسوية الخلاف معه. وقيل حينها إنّ سبب الخلاف يتعلق بخفض الحزب الموازنة الشهرية التي يقدّمها إلى سليمان.

قبل نحو أسبوع عاد سليمان وطيَّر رسالة «إزعاج للحزب»، وهذه المرة تحت عنوان إعلان قراره المفاجئ بالعزوف عن الاستمرار في موقعه كأمين عام لـ«أنصار الله». داخل البيئة المواكبة لمسار العلاقة بين «أنصار الله» و«حزب الله»، ينظرون بعدم جدّية الى قرار سليمان الاستقالة.

ويعتبرونه «مناورة» جديدة للفت نظر الحزب الى مطالب يريدها منه. ويشيع أيضاً أنّ مطلبه الجديد مرتبط بعتبه على الحزب لأنه لم يتدخل بشكلٍ كافٍ لإطلاق موقفَين اثنين من أنصاره لدى القضاء اللبناني.

غير أنّ قصة العلاقة بين «أنصار الله» وتحديداً بين أمينها العام جمال سليمان و»حزب الله»، تخبِّئ في جوهرها خلفيات أبعد من اختصارها بعتب سليمان أو بخفض منسوب دعم الحزب المالي له.

فـ «أنصار الله» تمثل لـ«حزب الله» رمزية سياسية وعسكرية وتاريخية مميَّزة ولا يمكنه إدارة ظهره لها، لأسباب صغيرة او حتى ما دون الجسيمة. والاكيد أنّ سليمان يعرف معناه داخل ذاكرة الحزب وموقعه ورمزيّته داخل استراتيجيته الاسلامية، ولذلك غالباً ما يطبق في علاقته معه مقولة «عرف الحبيب مكانه فتدلّل».

ماذا يمثل جمال سليمان لـ«حزب الله»؟

شكّل سليمان للحزب أحد أولى الشرفات التي سمَحت له بالإطلالة على الساحة الاسلامية الفلسطينية في لبنان. فهو أقدَم حلفائه الاسلاميين الفلسطينيين فوق الساحة اللبنانية وتتعدّى رمزيّته هذا المعنى لتطاول صلة جوهرية أبرز، وهي أنّ جمال سليمان يُعَدّ أحد ابرز كوادر جيل من التيار الاسلامي الذي كان موجوداً في حركة «فتح» في لبنان، وذلك قبل ولادة «حزب الله»، وتفاعَل مع الحزب خلال لحظات نشأته الاولى وأسهَم في نقل تجربة كوادر عسكريين فلسطينيين ولبنانيين فتحاويين اليه.

بداية سليمان كانت في كتبية الجرمق في «فتح» التي كانت متمركزة في جبل الحليب شرق صيدا. وكانت هذه الكتيبة اضافة إلى أخريات مثل الكتيبة الطالبية، تمتاز عن بقية الجسم العسكري الفتحاوي في لبنان، بانتمائها إلى التيار الاسلامي الذي كان موجوداً حينها داخل «فتح» وذلك تحت يافطات وأسماء مختلفة.

وآمن هذا التيار مبكراً بأنّ للإسلام كدين ومخزون ثقافي واجتماعي كبير في المنطقة، دوراً مهماً في رفد نضال حركة التحرّر الوطني الفلسطيني بأسباب القوة على مستوى العالمين الاسلامي والعربي. وكان هذا التيار يتبنّى ما يمكن تسميته الإسلام الاجتماعي ونتفاً من أفكار حزب التحرير والاخوان المسلمين، وينبذ بالكامل أفكار السلفيين والتعصب المذهبي، الخ.

في بدايات التسعينات ومع تعاظم ازمة وجود «فتح» في لبنان إثر تتابع نتائج الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، بدأت كوادر من التيار الاسلامي في «فتح» تنشئ علاقة مع «حزب الله» الوليد بوصفه حركة مقاومة إسلامية ضدّ إسرائيل. ونتج عن هذه العلاقة آنذاك نوع من التفاعل بين إسلاميّي «فتح» الفلسطينيين واللبنانيين والحزب، تسبّب بجزء من الفضل في مساعدة الاخير على تكوين الجينات الاولى لجسده العسكري.

والواقع أنّ سيرة جمال سليمان منذ انتقاله من كتيبة الجرمق الى «أنصار الله»، تُمثّل أبرز نماذج تلك المرحلة التي لقّحت التكوين المبكر لجسم «حزب الله» العسكري بخبرات فتحاوية، الامر الذي ساهم حينها في تقوية عضده، وبنتائج أبعد أثراً في مجالات اخرى.

ويتمثل أبرزها بأنّ عدداً من قياديّي الحزب العسكريين البارزين لاحقاً، تعود قصة انتمائهم اليه لفترة التفاعل بين نشطاء التيار الاسلامي في «فتح» والحزب خلال فترة التسعينات، ومن هؤلاء عماد مغنية الذي كان أحد نشطاء الكتيبة الطالبية في «فتح» قبل انضمامه إلى أطر إسلامية اخرى وصولاً إلى انضمامه لـ«حزب الله».

لقد مرّت علاقة سليمان بـ«حزب الله» بمحطات عدة، فإلى أنها كانت جزءاً من علاقة مبكرة بين التيار الاسلامي بـ«فتح» مع الحزب، فإنها أيضاً ارتقت الى مستوى التحالف وأصبح لـ«أنصار الله» علاقة بإيران التي عمدت خلال فترة معيّنة الى التفكير بتحويله من مجرّد فصيل عسكري متمرّس الى قوة شعبية داخل المخيمات الفلسطينية، وذلك من خلال تمويل إنشاء مركز خدمات صحّي واجتماعي تابع له في عين الحلوة.

لكنّ تركيبة «أنصار الله» غلبت عليها بنيتها العسكرية، وتكيّفها من خصوصيات نشأتها الاولى لجهة تموضعها العسكري في مخيّم المية ومية قريباً من ديموغرافيا نشأتها في جبل الحليب.

والواقع أنّ جوهر المشكلة الآن بين الحزب وجمال سليمان، تكمن في أنّ «أنصار الله» يتحوّل تدريجاً في اتجاه هجرة النظرية الاسلامية كما صاغها التيار الاسلامي في «فتح»، وذلك لمصلحة بروز جماعات داخله الأبرز فيها نجل جمال سليمان، أخذت تتّجه بقوة لاعتناق الاسلام الجهادي السلفي وإعلان تأييدها للقتال الى جانب السلفيين خصوصاً «جبهة النصرة» في سوريا وتحديداً في مخيّم اليرموك.

خلال العام الماضي رُصد أكثر من عنصر من «أنصار الله» قتلوا في اليرموك الى جانب «النصرة»، كما لم يعد سراً أنّ نجل سليمان وهو من قياديّي «أنصار الله»، ذهب أكثر من مرة للقتال الى جانب السلفيين في سوريا.

وهذه الإشارات أثارت قلق الحزب، وفي الأساس سلّطت الضوء على أحد احتمالَين لتفسير أسباب استقالته؛ إمّا أن يكون سليمان يقود بالخفاء انقلابَ انتقال «أنصار الله» من الاسلام حسب صيغته الفتحاوية الى الاسلام الجهادي السلفي، وإمّا أنه بات فعلاً عاجزاً امام تعاظم عدوى السلفية الجهادية من سدّ أبواب بيته الحزبي في وجهها!

(الجمهورية)

السابق
النفايات في يومها السادس: ارتفاع الحرارة يضاعف الأزمة
التالي
ماذا يجري في لبنان؟