من سيرة الذعر السوري

من سيرة الذعر في زمن البعث، زمن الأسد الأب والابن، أننا كنا نظهر للحياة اليومية بعشرات الأقنعة؛ فالصراحة والصدق والحب والحرية من المفاهيم التي ترعب المستبد وقطيعه المذعور.

حتى في غرف نومنا كنا نخاف. من كثرة الأقنعة والتورية والتذاكي، ضاعت وجوهنا الحقيقية. نحكي أمام رؤسائنا في العمل غير ما نحكيه في الشارع، وغير ما نحكيه مع أنفسنا.
في العمل كان يجب أن نشكر جميع رؤسائنا، من رئيس القسم الذي نعمل فيه، إلى رأس الهرم، مروراً برئيس التحرير ومدير التحرير، وموظف الاستعلامات والوزير ومعاونيه، ومختار الحيّ.
في ظلّ المستبد، عشنا كمخصيين، تماماً. يكفي أن يسأل عنصر أمن عن أيّ إنسان في الحيّ، ليموت من الرعب والذعر.
الذعر هو المنتج الأول لسياسة البعث وراعيه الأكبر.
الذعر من كل شيء:
– من الفرّان وابنه لأنه بعثي وسارق صغير.
– من الشرطي لأنه شرطي وهو مرتشٍ.
– من المدرّس في المدرسة، ومن المدير، من الموجه والمستخدم.
– من آخر الشهر وأوله، من الغلاء، من أيّ جملة عابرة للحدود وفيها شيء من الحرية.
– من زملاء المدرسة والجامعة لأن بعضهم يكلف أمنياً بالبعض الآخر.
– من أيّ موظف في أيّ دائرة حكومية.
– من الرياضيين والرياضة.
– من الثقافة لأنها تنير العقول وتنوّرها.
– من الأب والأم، من الفنان الشامل والممثل الشامل.
– من المسرح والسينما، والتلفزيون.
وكان هناك “السيّاف السوري” من شرفته كما وصفه نزار قباني، يتفرج علينا مستمتعاً، ويتلذذ بمنظرنا ونحن نموء كقطط الشوارع، ننتظر أن نأكل وننام وننجب ككل كائن بيولوجي على وجه الأرض.
نعم، “ضبعنا جميعاً”، وإن خرج حرّ عن القطيع فيكون مصيره النفي أو الموت أو السجن.
كان المطلوب أن نصفق له:
– في الصباح إن استيقظ وتناول فنجان قهوته.
– وفي الظهيرة إن تناول غداءه ونام.
– إن خطب فينا، إن استقبل، أو ودّع.
– إن شرّح لنا المؤامرات الكبيرة والصغيرة.
– إن ولدت زوجته.
– إن ذكر اسمه في درس رياضة أو ديانة أو في احتفال ديني أو قومي.
وصرنا نتباهى في قوة التصفيق، نتماهى مع الخوف، ونعيد خوفنا مضاعفاً لأبنائنا، على حدّ زعم مصطفى حجازي في “سيكولوجية الإنسان المقهور”.
السيّاف سعيد مستقر وهو يراقب صمتنا الأبدي، لكنه أيضاً كان يتفقدنا بين الحين والآخر ويجري علينا دراسات أمنية، فيرسل عناصره إلى الأحياء، إن تقدمنا إلى وظيفة، إن ذهبنا إلى الخدمة الإجبارية، إن نوينا الزواج والإنجاب. كانوا يسألون عن كل شيء، لون عيوننا، ماذا نقرأ بعد العاشرة ليلاً، ماذا نقول، ماذا نهمس، ماذا نقول لنسائنا في الغزل، ما عدد أطفالنا، ولماذا فلانة لا تنجب، ولماذا فلان يخاصم والده.
إن عُبّد طريق، فهذا من إنجاز السيّاف. إن بُني مشفى للأمراض العقلية، فهذا إنجاز تاريخي يُحسَب له. إن رشّت البلدية البرغش والذباب في الشوارع، فهذا أيضاً من منجزاته العظمى. إن تغير المناخ، إن هطل المطر، إن أثلجت، إن تغيرت قواعد اللغة العربية، فهذه كلها من تفريخ إنجازاته الكبرى.
في صحافته، إن كتبنا عن رئيس بلدية مدعوم، فهذا خطّ أحمر. وإن كتبنا عن بطل رياضي لم يرسل شكره إليه، قالوا إنك تخطئ. إن كشفنا سرقة، لسارق كبير، قالوا اكتبوا عن السرقة لا السارق، والمساحة الأوسع له ولزوجته ونسله البعثي، وهم يدشّنون ويقصّون شرائط النفاق.
في ظلّ سعادته، كان المطلوب تكسير الأقلام الحرّة أو نفيها، أو قتل أصحابها.
نحن الشعب، مطلوب منّا أن ننام من التاسعة ونطفئ الأضواء، ونتمسك بالمنطلقات النظرية لحزب البعث، ونقرأها كنصوص مقدسة.
أن نرعى كالغنم الحشائش في الربيع، لنتمكن من إمرار الشهر والفقر والبؤس.
كنا شعباً من الخوف والانتظار.
نقرأ لوركا سرّاً، ونسخر سرّاً، ونضحك على نكتة سياسية سرّاً. ونبكي سرّاً.
في المدرسة تلاحقنا دروس القومية، ودروس التاريخ، تاريخه طبعاً، وفي الجامعة معسكراته الجامعية، وفي الشارع لافتات المناسبات والانتصارات!
أكثر من ذلك أيضاً، في الشعر لا يجوز أن تشتم أو تلمّح إلى عرشه أو نسله. وبحجة النظم الفراهيدي وأصوله كانوا يحطمون المواهب، وإن تجرأ شاعر نفوه إلى أقرب سجن.
في كل بيت علِّقت تلك الجملة، “الجدران لها آذان”، وصارت الجدران تنصت إلى أحاديثنا وآهاتنا، وكنا نظهر أمام تلك الجدران بأقنعة.
مع الذعر أفقرونا، ونهبوا كل ما نملك من أحلام وطاقات وثروات، وإن قلنا “لنا حق هنا”، رجمونا، وزرعوا الشوارع بالملل والقرف.
غسلوا أدمغتنا بزيفهم، وانتصاراتهم “الهزائم”، ومحوا ذاكرتنا العامة من شكل الحبّ الحقيقي.
كنا بقايا بشر، نعدّ الأيام لنصل الى موتنا القريب، ومن أمثالنا الشعبية لقّنونا: “نمشي الحيط الحيط ومنقول يا ربي الستر، ومن يأخذ أمّنا نقول له يا عمّنا”.
خربوا كل شيء؛ العادات، التقاليد، الشرف، الصدق، الضمير… كان الزوج يشي بزوجته إلى أقرب فرع أمني، إن رفضت معاشرته، والولد يشي بأبيه. كان الترخيص بمطعم فلافل يحتاج إلى موافقة أمنية.
كنا شعباً من الخوف، شعباً من الاختناق العام واليأس.
سمحوا فقط بازدهار صناعة بيوت الدعارة، وتركوها تنتشر في الأحياء السكنية والمقاصف الرديئة، وعلى وقع أنغام الداعور كانت حثالات الناس ترقص آخر الليل وتعربد.
بيوت دمشق العربية القديمة حوّلوها مطاعم. واضطرّت المكتبات العريقة لتغيير عملها.
تلك الأساطير العفنة، “الحكومات المتعاقبة”، كانت تتفنن في تنويمنا بالتصريحات.
تصريح صباحي عن الأمان في سوريا، وتصريح مسائي عن الصمود ومحاربة الامبريالية، وتصريح آخر الليل عن مكانتنا بين دول العالم.
نغفو حالمين بنهار جديد، نأمل بالإصلاح إن وافقوا عليه مسبقاً، ويتضح أن إصلاحهم حبوب “سيتامول” من صنع تاميكو وطلائع البعث والشبيبة.
أفسدوا كل شيء. أفسدوا العمارة والتعمير وأبدلوها بالعشوائيات والرشاوى. أفسدوا الجامعة وأساتذتها وملأوها بالمخبرين والجهل والغش المنظم. أفسدوا المدرسة بإفقار المعلمين.
لكن، على رغم كل شيء، نمت فكرة الحرية في الأزقة والقلوب والضمائر.

(النهار)
(كاتب سوري)

السابق
مارسا الجنس في غرفة ملابس فاعتقلتهما الشرطة
التالي
منع التدخين لا يؤثّر في حجم سوق الدخان