عاتب على الله: في هذيان المظلومين

حسن مشيمش
يعاتب الشيخ حسن مشيمش ربّه في هذا النص الجميل فيقول في أحد المقاطع: "سألته معاتباً وراضياً في آن معا عن السرّ المضمر في إمهاله حكّامنا اللصـوص الكبار وأحزابهــم الثورية وشعرائهم وكتّابهم ووعاظــهم الذين جعلوا بفنون ألسنتهم وأقلامهم قبح هؤلاء اللصوص وظلمهم عدلاً، وشرورهم خيراً".

في محراب الطبيعة وعلى أطراف قريتي بعيداً عن مرأى الناس ومسمعهم رفعت رأسي ويمّمت وجهي نحو السماء معاتباً وراضياً، متذمراً وموافقاً في آن معا وأنا أخاطب إله الوجود لا لأنه كائن في السماء كما يعتقد أبي، بل لأنها رمز كبريائه ونفوذه المطلق، ولأنه فوق المكان والزمان.

في هذه اللحظات تمنيت لو أنه لم يخلقني وكنت عدماً ونسياً منسياً لم تلدني أمي تماماً، كما تمنّت مريم والدة المسيح (ع) وعلي بن الحسين (ع)، تمنيت ذلك مع شك في ما تعلمته من أن الوجود خير من العدم إلا أنه كان مصحوباً بيقين لا شك فيه “بيوم العدل” بعد الموت وُعِد فيه المظلوم مثلي بأنهار من لبن وعسل وخمرة لذة للشاربين (غير مسكرة) وحور عين كأنهنّ الياقوت والمرجان، سألته بخفقات قلبي ودموع عينيّ بعيدا عن التكلف في صناعة الكلمة والكلام والكلم متحرراً من كسرة المجرور وضمة المرفوع وفتحة المنصوب وقد اكتشفت مؤخراً ان الإمام علياً (ع) قال: “خير الدعاء ما لا يتكلف الداعي به بين يدي ربه”.

ولكثرة ما استنزفتنا قواعد اللغة وسائر علوم الدين والدنيا نسيت بديهة كان واجبا ان لا انساها وهي أن الخالق جلّت قدرته يدرك معاني اللهجات ودلالات الإشارات والإيماءات المتغايرات في مخلوقاته الناطقة والصامتة كافة تماما كما يدرك معاني العبارات الفصيحة ذات الدلالات البليغة.

اقرأ أيضاً: الشيخ حسن مشيمش ليس عميلا أيها « المخبر»!‎

سألته معاتباً وراضياً في آن معا عن السرّ المضمر في إمهاله حكّامنا اللصـوص الكبار وأحزابهــم الثورية وشعرائهم وكتّابهم ووعاظــهم الذين جعلوا بفنون ألسنتهم وأقلامهم قبح هؤلاء اللصوص وظلمهم عدلاً، وشرورهم خيراً، تارة بحجة المرحلــة الحساسة او الحالة الاستثنائية الخطيرة أكثر من أي وقـت مضى او بالعنوان الثانوي وتارة بالخــيار الضـروري الواقعي الخ…

سألته معاتباً وراضياً في آن معاً عن سرّه المضمر في إمهاله (لا إهماله) الطويل لأولياء أمورنا السياسية ـ (والدينية) الذين سرقوا منا زهرة عمرنا وتسولوا ربيع حياتنا للتضحية بهما في سبيل العدالة من أجل الجميع فوهبناهما لهم بكل رغبة ومن دون أدنى تردد، ولما أثمرت لهم في بنوك السياسة مالا ونفوذا وجاها لم يتورعوا كسابقيهم من إلزامنا بعبادتهم بوصفهم شركاء لله بالأمر والنهي او من دونه عزّ وجلّ وفرضوا علينا ان نجعلهم ونؤمن بهم شخصيات قيادات مخلوقات فوق المحاسبة والمساءلة والمراقبة والمعارضة يسألوننا عما نفعل ونقول ونكتب (ونهمس) وهم لا يُسألون عن شيء!

والويل لنا والثبور وعظائم الأمور ان لم نعتقد بأن أصلاب الرجال عقرت وأرحام النساء عقمت عن إنجاب أمثالهم وأمثال ذراريهم وليداً بعد وليد وحفيدا بعد حفيد، وان الواحد منا عندهم لا يصبح عزيزاً إلا إذا جاد بألحان الموسيقى وأوتار الغناء وعيون القصائد للإشادة بهم والإطراء لهم والتمجيد بعظمتهم، وازدان صالونه وحجرة نومه وزجاج سيارته الأمامي والخلفي بصورهم الفوتوغرافية او الزيتية ودعا الله لهم في مبتدأ كل حفل واحتفال وفي ختامه، وعقيب كل صلاة وطواف وإفطار وفي ختام كل منسك!

اقرأ أيضاً: العلمانية ليست ملحدة ولا مؤمنة

سألته معاتبا وراضيا في آن معا عن اللغز المضمر الخفي، وعن السر المستتر الكامن في نجاتهم من زلازله وفيضاناته واعصاراته وصواعقه ومجاعاته والتي تصيب سائر عباده في أطراف أرضه؟!

مع شك في ما تعلمته من أن الوجود خير من العدم إلا أنه كان مصحوباً بيقين لا شك فيه “بيوم العدل” بعد الموت وُعِد فيه المظلوم مثلي

وبعد الدعاء والمناجاة والسؤال والتساؤل كأني قرأت إجابة بليغة فصيحة مخطوطة بغيوم الفضاء في أفق السماء بالكلام التالي:

«أيها المخلوق إن الأرض والكون خاضعان لقوانين لا يعطّلها دعاؤك ولا تبدلها مناجاتك ولا تغيرها مظلوميتك. إلا أن العدالة التي تطمح لها أنت والمجتمعات الانسانية هي خاضعة للقانون التالي:

ان صناعة العدالة في السماء بعد الموت وظيفتي لا وظيفتكم، وان صناعة العدالة في الأرض قبل الموت هي وظيفتكم لا وظيفتي!

سألته معاتباً وراضياً في آن معا عن السرّ المضمر في إمهاله حكّامنا اللصـوص الكبار وأحزابهــم الثورية وشعرائهم وكتّابهم ووعاظــهم الذين جعلوا بفنون ألسنتهم وأقلامهم قبح هؤلاء اللصوص وظلمهم عدلاً

وان كل ظالم فيكم ما هو إلا صنم ولو كان ساجداً داخل بيتي الحرام او راكعاً تحت قبة كنيسة بيت لحم او مُهطعاً رأسه عند حائط المبكى، فإن لم تُكسِّروا أصنامكم (البشرية) بعقولكم لا بزنودكم، وتحطموها بأدمغتكم لا بفؤوسكم، وتهدموها بعلــمكم لا ببنــادقكم وتفضحوها بأقلامكم لا بدمائكم فلن تستطعموا حلاوة العدل بينكم ولن تستذوقوا ثمرة القسط فيكم!

الله

ولو صوّر الجهل لأظلمت معه الشمس ولو صُوّر العقل لأضاء معه الليل.

الكافر العادل في الأرض مؤمن في السماء لعدله

والمسلم الظالم في الأرض كافر في السماء لظلمه!

الظالم ليس له دين ولا مذهب ولا طائفة ولا وطن ولا هوية ولا تصدقوه في معاداته للامبريالية والصهيونية».

هكذا قرأت في غيوم السماء فاعذروني ان كنت أهذي من خداعها أليست الحياة أمست هذياناً وخداعاً في مجتمعنا العربي الشرقي؟!

السابق
تقرير «حماس» بذكرى عدوان غزة: خسرنا إقتصاديا وخسروا سياسيا
التالي
الاتفاق النووي: موعد خامس