امتحان على وقع الرصاص

كُتب على رأس ورقة الامتحان “الاحتفاظ بجهاز الخليوي، ولو مغلقاً يعرّض صاحبه إلى إلغاء المسابقة”. أتقيد بما ورد، ودائماً أضع هاتفي في حقيبة صغيرة، أتركها إلى جانب باب القاعة، حبل سري التكنولوجي هذا ينأى عني، ويتركني وحيداً لطاولة، قلم، هوية ووجوه لا أعرف منها إلا ما ندر. أتلمس مقعدي (سيكون للساعتين المقبلتين)، أتفرس في من حولي، من دون أي سؤال، يرن الجرس معلناً بدء الامتحان، أشرع بالكتابة.

يمرّ الربع الساعة الأول بطريقة اعتيادية، من دون خرقٍ في أي مقعد، أو صوت مباغت، يأمر بالخروج من القاعة فوراً. مراقبة من أصل ثلاث تصل إلى قربي، وهي تتأكد من الأسماء المكتوبة، تلصق الورقة من الزاوية يميناً، بعد أن تكون قد رفعت الهوية، وقارنت صورتها إلى وجه الطالب بخفة.
كان الصوت سريعاَ بداية، انقطع لم أتأكد. لم يسأل أحد. نظرت الى المراقبتين، ورأيت إحداهن ترفع يدها بشكلٍ يوحي بأنها تتساءل عن شيء ما، وإذ بالصوت يعود. اتضح الأمر، هذا رصاص وقد خبرناه جيداً. لا إرادياً أضع القلم على الطاولة، وأضرب يدي على جيبي، منادياً هاتفي، كي يفيني بالذي يحصل في الخارج، وكي أسكت الهرج والمرج في القاعة. خبر عاجل قد يظهر على الشاشة الرئيسية، يفي بالغرض، يخبرني بما يحصل خارج الجامعة. لسوء الحظ، ليس الهاتف في جيبي، لكنه بالتأكيد يرتج هناك بالحقيبة، معلناً عن الذي يحصل.

فوضى تسود في الداخل. وخارجاً، الرصاص يخفت صوته، ويزيد من دون توقف. تصعد المراقبة التي بان عليها التساؤل إلى منتصف القاعة، وتصرخ مخاطبة التلاميذ أكثر من مرَّة، أنها ليست المرة الأولى التي تسمعون فيها صوت رصاص. لذا، أنصتوا وأكملوا الامتحان بهدوء، وإلَّا…
تتمالكني الحشرية، القلم في يدي من جديد، من دون أن أكمل أي حرف. فقط أضع فرضيات، وأهزّ يدي مع القلم على الطاولة. أتراجع شيئاً إلى الوراء، وأنتظر أحداً يجيب: لماذا كل هذا الرصاص؟ هل تمت السيطرة على جرود القلمون؟

إذن، سأخرج من هنا، وأرى حلوى توزع على جانب الطرقات، ثغور واسعة تهلل للانتصار الجديد، وقد أرى أعلاماً مرفوعة، ومواكب سيارة تجول المنطقة، وزميرها يعمّ الأرجاء. أو لماذا أنتظر خروجي من الامتحان؟ يمكن لأجواء الفرحة أن تدخل المدرج، حيث يجري الامتحان، وتتعالى الصيحات. أحاول أن أتذكّر آخر خبر قرأته عن المعركة في القلمون، كل ما في الأمر بعض أسماء التلال، وتالياً المساحة الجغرافية الواسعة لها، لا ليس هذا سبب الرصاص، بالطبع، لن تسقط الجرود كلها في هذه السرعة.

أشُد بقلمي على ورقة الأسئلة، وأكتب بخط صغير “اليمن” حقاً؟ انتصر الحوثيون هناك، وحلفاؤهم الجدد في لبنان فرحون للموضوع، وإنما يطلقون الرصاص لهذا السبب التي من بعيد، أو من الممكن أنه تمَّ إسقاط طائرة سعودية، كانت تحوم فوق عدن.
لكثرة الأحداث التي تحمل على إطلاق الرصاص في ضاحية بيروت الجنوبية، تشتت عقلي بين الدول الحليفة والمتخاصمة الكثيرة، انتصار حليف هنا قد يقود لكل هذا الفرح أو هزيمة خصم هناك.

هل يطل قاسم سليماني على بيروت، ويزورها فجائياً، وهذا النار للترحيب به واستقباله كما تستقبل الرعية ملكها المحبوب، أو أهل العريس زوجته نهار العرس. تدور الفرضيات وتتنقل من صنعاء إلى القلمون إلى زوَّار بيروت. وإلى الآن، لم يعرف أحد من الموجودين ما الحدث المهم في الخارج. على ورقتي، حيث عدت إليها قليلاً، وأكملت سؤالها الأول الإلزامي والنصف ساعة من الرصاص التي قضت أنهكت عقولنا أجمع، أو بالحد الأدنى عقلي.
لم أشك لحظة أن سبب ما يجري حزن يعم الشارع، (سأتفاجأ فيما بعد). غاب عن بالي نهائياً ما يمكن أن يحدث في مثل حالة الموت. سيطرت الانتصارات على مخيلتي، وحثتني على الاستنتاج من دون سؤال أحد، ولو كنت أنتظر جواباً يريحني.

قبل ليلة، قرأت عن داعش في العراق، ودعوات مقتدى الصدر للانقضاض عليها من كل صوب ودحرها، لا بد أن الحشد الشعبي والفصائل المساعدة حرروا منطقة ما، كانت قد احتلتها داعش. وهنا، على بعد مئات الأمتار من المقعد 210 يحتفلون بانتصار شمال بغداد يمكن أن حدث وحققه أصدقاء من يطلق النار أو المحتفلين اليوم، هنا في بيروت عند العاشرة والنصف صباحاً، لا ليس أصدقاء فحسب، إنما ارتباط عضوي يجوب العلاقة بين الاثنين والفرح بهكذا انتصار، هو واجب أخلاقي وشرعي، هكذا سمعت في حالات سبقت.
لم تغب فكرة الخطاب، لكن استبعادها لسببين: أن الخطاب الأخير كان منذ ثلاثة أيام. وأنّنا في الجزء الصباحي من النهار، ولم تجر العادة على خطابات من النوع الذي يطول.

شَكوت من نفسي وما آل اليه تفكيري، إسرائيل لم تواتني فكرة، إلا بعد مرور على عدة عواصم، اعتقدت أن انتصارا حدث فيها أو إلى جانبها. كيف؟ وهي العدو الأكبر والسبب الأساس في وجود هذا السلاح. هل أن انفجاراً هزَّ حيفا أو تل أبيب، أو نفذت عملية اغتيال لشخصية صهيونية، والفرحة عمت الشوارع، والتلفزيونات تنقل مباشرة الخبر واتصال مع مختص في الشؤون العسكرية يحلل ويمحص، كل هذا يجري، وأنا أتحرك في مسافة تقل عن نصف متر.

انتهيت من السؤال الاختياري بمعلومات مقتضبة، ومن دون إسهابٍ، سمح لي بتسليم ورقة الامتحان باكراً، وتهيئة خروجي إلى أرض الحدث، حيث أوهمتني ساعة بأحداث كثيرة تخيلت حصولها. أقفلت الكرّاس، وضعوها بالظرف، ومضيت مسرعاً إلى هاتفي، لأجده منطفئاً، ولا خبر عاجل على الشاشة انطبع.
وصلت إلى الخارج مسرعاً، أريد العلم عن سبب كل الرصاص نحو الساعة، نظرت إلى أكثر من شخص، وتوقفت عند اثنين مرّوا بجانبي، وسألتهم عن السبب، فكان الرد بأمرين. شكل هؤلاء تغير عند سؤالي وذهب صوب السخرية لو أمكنهم وجواب أحدهم “شو باك يا زلمي، تشييع هون بالحي”.

(العربي الجديد)

السابق
بزي: لسنا بحاجة الى شهادة لا من ويكليكس ولا من غيرها
التالي
لماذا خاف حزب الله من تحرك «17 حزيران »؟