هل خفت صوت «داعش»؟

فيديوهات داعش عوامل جذب للمقاتلين الأجانب ({الشرق الأوسط})
خبراء لـ«الشرق الأوسط»: تهويل وجوده باليمن خطوة مقصودة.. والحد من قدراته الترويجية مسؤولية دولية

ستغل «داعش» مساحات الإنترنت اللامتناهية ليبني ماكينة إعلامية متكاملة تنشر أفكاره وتجند عناصر في صفوفه، فأسس ذراعه الإعلامية بدءا بـ«الفرقان» لإنتاجاته المرئية وصحف بلغات أجنبية وعربية، وإذاعات في مناطقه. واستنزف التنظيم منابر التواصل الاجتماعي ليمارس عملية «غسل الأدمغة» بأخطر الأساليب.

انخفضت أخيرا مشاهدة عروض أخبار «داعش»، كما لو أنه توارى عن مجهر مؤسسات الإعلام الرئيسية. في ذلك يقول تشارلي ونتر الباحث البريطاني في التنظيمات المتطرفة لـ«الشرق الأوسط»، إنه «بعد نضوج الإعلام الرئيسي وفهمه لدور ماكينة التنظيم الإعلامية أصبح لا يعطيه متنفسا دعائيًّا ولا يسلّط الضوء على إصداراته».

ولكن لا يعني ركود نشاط ماكينة التنظيم وانخفاض وتيرة أخباره أنّ صوته خفت تماما، فلقد عاد الأسبوع الماضي بتسجيل لا يقل فظاعة عن إعداماته السابقة. وتناقلت مواقع تواصل اجتماعية متطرفة تسجيلاته الصادرة عن مكتب ما يسمى بـ«ولاية شبوة» الإعلامي حسب متطرفين. ويظهر التسجيل إعدامات لحوثيين ينفذها عناصر من «داعش» في اليمن. وهنا لا بدّ من التساؤل إن كانت «فقاعته» الإعلامية قد فجرتها ضربات التحالف التي تستهدف معاقله في سوريا والعراق أم أن المجريات السياسية في المنطقة خصوصا باليمن، قد أزاحته مؤقتا من الأجندة الإعلامية؟

سلاح التنظيم الأقوى.. ترسانة إلكترونية

يعتمد «داعش» في استمراريته على سلاح «ناعم» وهو ماكينته الإعلامية، إذ لم تشهد المنظمات المتطرفة سابقا إعلاما مرئيا متطورا ولا انتشارا إلكترونيا بقدر ما شهد «داعش»، الذي يستخدم الإعلام لتجييش الرأي العام وحثه على جعل المنظمات الإرهابية حديث الساعة لدى مؤيديه أو معارضيه.

والجدير بالذكر أن إعلام التنظيمات المتطرفة ليس جديدا، فكان لـ«القاعدة» أيضا مؤسسة «السحاب» لإنتاج أشرطة فيديو تحمل خطابات لقياديي التنظيم خصوصا زعيمها السابق أسامة بن لادن.

وربما ألهمت «السحاب» تنظيم داعش، ولكن التطور التقني الذي تسارع في حقبة نشوء الأخير، وإيقانه أن الإعلام أساس لبقائه يردي أشرطة السحاب عجوزة مقارنة بإصدارات «داعش» المتعددة.

تحتوي مظلة «داعش» على مؤسسات متفرعة معنية بإصدارات لوسائط عدّة. إمبراطورية إعلامية متكاملة. ففي عالم الإنتاج المرئي، تتوسط «مؤسسة «الفرقان» عرش التسجيلات السينمائية المحترفة.

وتحت إشراف مركز «الحياة» للإعلام التابع لـ«داعش» أصدرت «دابق» أول صحيفة رسمية للخلافة، توزع في العراق ومتاحة بالنسخة الإلكترونية بالعربية وبلغات أجنبية. أما مؤسسة «أجناد» فتعنى بنشر أناشيد التنظيم. ويوجد مكتب إعلامي مع طاقم كامل في كل «ولاية»، ويدّعي التنظيم امتلاك مكاتب بـ«ولايات» في العراق والشام واليمن وسيناء وليبيا وخراسان والجزائر ونيجيريا.

ويستنفد التنظيم منابر تطبيقات التواصل الاجتماعي لتجنيد مقاتليه ونشر آيديولوجيته. وتشير آخر الإحصاءات إلى أن عناصر ماكينته الإعلامية يغردون بأكثر من 100 ألف تغريدة يوميا من أكثر من 50 ألف حساب.

إنّما قد لا يعني الحضور الإنترنتي المكثف أن آيديولوجيته ستصل لجميع الناس. ففي مقابلة أجراها موقع «الهافنغتون بوست» مع الرئيس الأميركي باراك أوباما أواخر الشهر المنصرم، أكد الرئيس أن الاستخدام المكثف لمواقع التواصل الاجتماعي بات يهوِّل المعلومات ويحول أي خبر كان لكارثة. مضيفا «أدت هذه المواقع إلى إنشاء حلقة أخبار على مدار الساعة». توفر كل الأخبار من شتى المصادر على الشبكة العنكبوتية، ولكن قد لا يعني ذلك أن تجتاز تلك الأخبار حدود الإعلام الاجتماعي إلى الإعلام الرئيسي، فلا تحظى جميعها بنفس الاهتمام ضمن الأجندة الإعلامية للصحف والقنوات والإذاعات وغيرها. ويؤكد ذلك اعتماد «داعش» على الإعلام الرئيسي لتغطية آخر أخباره المبعثرة على الشبكة.

التركيز على خبر الساعة

بالفعل استطاع «داعش» تكوين أوليغوبولية إعلامية على الشبكة العنكبوتية، ولكن قد لا تصل أخباره وإصداراته دائما لمحطات التلفزيون وصفحات الجرائد.

وقد يرجع ذلك إلى أجندة الأخبار التي يحددها الإعلام الرئيسي. فبعد فترة تغطية إعلامية مكثفة لحدث معين، قد يخسر المستهلكون اهتمامهم بتلك المسألة فتقل تغطيتها خصوصا عند نشوء حدث جديد يحتل مكان السابق. وإن لم يقل وطيس الحدث الأول إلا أن الإعلام يعكف على تغطية خبر «حديث الساعة» عوضا عن خبر مستهلك.

وقد نلاحظ أن الأجندة الإعلامية في الآونة الأخيرة اهتمت بعمليات «عاصفة الحزم» ضد المتمردين الحوثيين في اليمن بقيادة السعودية، وبعملية «إعادة الأمل» بعد 27 يوما من انتهاء الأولى.

حاليا، تنتقل مجاهر الإعلام من فظائع «داعش» في العراق وسوريا إلى تمرد الحوثيين. ويوضح الدكتور مصطفى العاني مدير قسم الدراسات الأمنية والدفاعية في مركز الخليج للأبحاث في تصريح لـ«الشرق الأوسط» قائلا «من الخطأ الاعتقاد بأن النشاطات الإرهابية حكر على (القاعدة) أو (داعش)، هناك أنواع ومصادر أخرى من الإرهاب لا تقل خطرا وتهديدا للأمن الوطني والإقليمي والدولي من تهديدات (القاعدة) ومن على شاكلتها».

ويشرح الدكتور عبد العزيز بن صقر رئيس ومؤسس مركز الخليج للأبحاث إجابة على أسئلة «الشرق الأوسط» أن «الميليشيات الحوثية تتمتع بقدرات إعلامية لا تناسب وضعها التنظيمي. وهذه الإمكانيات مصدرها الدعم الخارجي الذي تتمتع به الجماعة»، مضيفا: «لذلك تمتلك صوتا عاليا وحضورا إعلاميا كبيرا خدمة لأهدافها الجماعية منذ انطلاقها عام 2004».

وفي محاولة لجذب الإعلام من جديد، ازدحم موقع «تويتر» للتواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي، بتغريدات ترويجية لثاني إصدار مرئي من اليمن في غضون أسبوع بعنوان «ضرب الرقاب». ويظهر إعدامات بإطلاق النار على 10 حوثيين وقطع رؤوس أربعة آخرين. ونشط «هاشتاغ ولاية شبوة (#ولاية_شبوة)» المرتبط بالتسجيل الثاني بعد تسجيل سابق لإعلان «داعش» ولاية في صنعاء بعنوان «جنود الخلافة»، يهدد من خلاله الحوثيين.

ويسعى التنظيم لكسب الأنظار بعد تطور الأحداث في اليمن والتفات الإعلام لمجريات النزاع. لذلك يحاول تضخيم دوره في مناطق الصراع.

من جانبه، أكد ونتر الباحث البريطاني أن التنظيم الإرهابي «حاول لفت الأنظار إليه بعد أن أخذت أحداث اليمن الوهج الإعلامي العالمي الأكبر»، مضيفا: «الإصدار عبارة عن خطوة محسوبة من قبل مروجيه ضمن ماكينته الرئيسية بعد غياب أخباره عن الإعلام. ولا تستقطب تلك الخطوة الجمهور الغربي فحسب، بل تحاول الوصول إلى مؤيدي التنظيم لتجنيدهم».

ويصلح الجزم بأن محاولة «داعش» استرجاع الأضواء باءت بالفشل، إذ لم يتلقَ تسجيله الأخير زخما إعلاميا. ويُرجع ونتر ذلك إلى «الشهية الإعلامية في تغطية أحداث معينة». موضحا «في ملف اليمن، أُشبعت أخبار الإعلام بضربات (عاصفة الحزم) وعملية (إعادة الأمل). كان هناك القليل من التغطية لإصدارات (داعش) في الإعلام الغربي التي باتت بمحتوياتها اللإنسانية معروف وغير مفاجئة».

إعلام «داعش» و«ويكيليكس».. وجهان لعملة واحدة؟

يظهر اعتماد الإعلام الإلكتروني على التقليدي في كتاب «ويكيليكس: الأخبار في عصر شبكات التواصل» لشارلي بيكيت وجيمس بول. يذكر الكتاب أنه في عام 2010 وقع جوليان أسانج، صاحب «ويكيليكس» لنشر الوثائق والبيانات الحكومية المسربة، عقودا مع صحف مرموقة مثل «الغارديان» البريطانية و«نيويورك تايمز» الأميركية و«دير شبيغل» الألمانية، تنصّ بأن يزود الموقع الصحف بالوثائق الغنية بالمعلومات وهي بدورها تبسط هذه البيانات وتحررها إلى أخبار وتحقيقات مقروءة.

ويشرح بيكيت وبول في كتابهما العلاقة المتغيرة بين الإعلام الجديد والرئيسي والعلاقة المتوترة التي تجبر الطرفين على الاعتماد بعضهما على بعض، فيعتمد الإعلام الجديد على الرئيسي بالوصول إلى الأجندة الإعلامية التي تهم المستهلك، ويعتمد الرئيسي على الجديد للحصول على أحدث القصص.

وبدوره يشبه التعاون الترويجي بين «ويكيليكس» والصحف، اعتماد ماكينة إعلام «داعش» الإلكترونية على الإعلام الرئيسي، فمنذ انتشار مقاطعه ومدوناته وحساباته في الفضاء الإنترنتي، بات الإعلام الرئيسي الغربي والعربي يتتبع أخباره على مواقع التواصل. وانشغلت صفحات جرائد التابلويد بقصص التحاق الفتيات الغربيات بالتنظيم وبمغريات تجنيد الشباب في صفوفه.

وعند سؤاله عن هذا التشبيه، يتردد البروفسور تشارلي بيكيت، أحد كتاب «ويكيليكس: الأخبار في عصر شبكات التواصل» ورئيس مركز أبحاث الإعلام لدى جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، بالموافقة على التشبيه ويوضح لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حرص الإعلام الرئيسي على أن لا يقع بفخ ماكينة (داعش) الإعلامية ولم يعط التنظيم حيِّزا شاسعا لترويج المقاطع المرئية التي ينتهجها». مضيفا «على سبيل المثال، اختارت القنوات والصحف والمطبوعات عدم مشاركة مشاهد الذبح العنيفة».

كما أكد البروفسور أن السبب الأهم وراء ذلك أخلاقي تحت أسس تندد بتنظيم يستنزف مواقع التواصل الاجتماعي لتجنيد متطرفين ومؤيدين. والسبب الثاني هو أن الإعلام الرئيسي بات أكثر وعيا ونضوجا في تعاطيه مع الإعلام الجديد.

ويشير بيكيت إلى الفرق بين إعلام «داعش» ووثائق «ويكيليكس» فيقول «بخلاف (ويكيليكس) الذي احتاج التعاون مع الإعلام الرئيسي لتصل وثائقه السرية المسربة إلى الناس، لا يحتاج تنظيم إرهابي مثل (داعش) لهذا الأمر ليصل لمبتغاه بتجنيد المتطرفين والتأثير على عقول الناس».

من جهته يقول الدكتور بن صقر إن «داعش» بات «يتعرض لضغوط كبيرة في الآونة الأخيرة، وعلى ما يبدو فإن طاقاته الأساسية توجه لخدمة الجهد الميداني، مما يضعف التركيز على المجال الإعلامي»، مضيفا: «هناك في نفس الوقت، حصار إلكتروني على مستوى العالم يحاول منعه من التواصل مع قواعده الشعبية وداعميه، وهذه الإجراءات تمكنت من إفشال اختراقات (داعش) بنسبة عالية خلال الفترة الماضية».

حرب إعلامية وميدانية لإخماد التنظيم

ولكن قد لا يعني غياب قصص «داعش» عن صفحات الجرائد الأولى ونشرات الأخبار أن الحرب ضده انتهت، فقد أكد موقع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في آخر إحصاءاته في الحرب على «داعش» لشهر مارس (آذار) المنصرم، أن العمليات العسكرية ضد التنظيم في العراق وسوريا كلفت منذ انطلاقها في سبتمبر (أيلول) الماضي 1.83 مليار دولار، كما تستنزف 8.5 مليون دولار يوميا من جعبة أميركا العسكرية. فيما توسعت العمليات العسكرية والضربات ضده وانضمت نيوزيلندا وكندا للتحالف.

ومن جانبه، دعا المتحدث باسم الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إدوين سمولا الشهر الماضي إلى «المزيد من تنسيق الجهود الدولية لتجفيف المنابع المالية للتنظيم». وأظهر تقرير للأمم المتحدة أن التنظيم جمع مبلغا يتراوح بين 35 إلى 45 مليون دولار خلال سنة من مدفوعات الفدية، فقط.

إلى ذلك، قالت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في تقريرها إن «التنظيم يجمع ضرائب تصل قيمتها إلى ثمانية ملايين دولار شهريًا من الموصل وحدها»، مشيرا إلى «فرض ضريبة قدرها 200 دولار على الشاحنات في شمال العراق للسماح لها بالعبور بأمان».

ويضيف بن صقر أن «تبني استراتيجية للحد من القدرات الإعلامية للتنظيم مسؤولية دولية تتقاسمها جميع الدول. ودون شك أن النصيب الأكبر للحرب الإعلامية – الإلكترونية، سيقع على الدول المتقدمة تكنولوجيا، لامتلاكها قدرات تقنية وخبرات مطلوبة للتعامل مع النشاطات الإعلامية لـ(داعش) وباقي التنظيمات الإرهابية». ويستطرد: «نتيجة للمعاهدات الدولية وقرارات مجلس الأمن الخاصة بمكافحة الإرهاب عُدّلت أعداد كبيرة من القوانين مما أفسح المجال لفرض رقابة ومتابعة فعالة على بعض المواقع التي تنشر الفكر الإرهابي. لذا فإن تغير البيئة القانونية الدولية وإجبار المؤسسات والدول على التعاون في مهمة مكافحة الإرهاب كان له دون أدنى شك مردودات إيجابية».

ركود في إعلام «داعش»

بدأ العالم يرى نتائج الحرب الإعلامية والعسكرية للقضاء على التنظيم، ولا شك أن لضربات التحالف الجوية دور كبير في إضعافه، ولكن التنظيم يعلم كيفية التعايش مع هذه الضربات.

إلى ذلك، يؤكد بن صقر أن «جميع التنظيمات الإرهابية لا تزال فعالة على الأرض وبدرجات مختلفة، وما انخفضت حدته أو وتيرته هو البروز الإعلامي لبعض التنظيمات على حساب أخرى». ويضيف: «تتحكم بالنشاط الإعلامي عوامل بعضها يعود لوضعية التنظيم وبعضها يعود للظروف المحيطة به»

وأخيرا، يشير الدكتور العاني إلى نقطة بقلب الجدل ويقول إن، «إعلام (داعش) يمر بمراحل متقطعة، بعضها يشهد ارتفاعا في حدة المادة الإعلامية وكثافتها، وبعضها يشهد خفوتا ملحوظا في النشاط الإعلامي للتنظيم». ويكمل: «ما نشاهده الآن هو مرحلة ركود نسبي في النشاط الإعلامي لـ(داعش)».

وإن كان التنظيم يشهد ركودا إعلاميا، فلا بدّ من القول إن الحرب على «داعش» لم تعد إعلامية أو عسكرية، بل هي معركة للقضاء على آيديولوجية متطرفة قد تستمر حتى بعد اختفاء التنظيم.

(الشرق الأوسط)

السابق
معركة واحدة من عدن إلى جسر الشغور
التالي
وجهان «متناقضان» لحرب القلمون!؟