انحياز للشعب لا للحروب الأهلية

الفضل شلق

لا بد من ملاحظة الجذر الاجتماعي الطبقي للحروب الأهلية المتفجرة في الوطن العربي. جرت الثورة في جميع الأقطار في وقت واحد، أواخر العام 2010 وخلال العام 2011 وبعده. رفعت الثورة شعار الكرامة ضد الاستبداد، والعيش والعدالة الاجتماعية من أجل إعادة توزيع ما تراكم من ثروات، ومن أجل بناء مجتمعات منتجة يجد فيها الفقراء والمهمشون فرصاً للبقاء من دون هجرة التسول في بلدان الخليج العربي أو الغرب الأوروبي، أو تسنيد الجدران ضجراً.
أساء فهم الثورة كثيرون من النخب. نظروا إليها بانتقائية. بعضهم رآها من دون برنامج، بعضهم رآها من دون قيادة، بعضهم رأى، الأميركيين أو الإيرانيين أو الأتراك يحركونها. بعضهم رأى في هذا القطر ثورة، وبعضهم رأى في هذا القطر اعتداءً على المذهب.
لم تسئ فهمها الطبقة الحاكمة ولا الطبقات البورجوازية العليا التي تؤيدها. هذه رأت في «الميدان» خطراً على السلطة وتراكم المال لدى القلة. هذه رأت في «الميدان» حرباً طبقية فقررت أن تواجهها: حاكم عربي يوارى في السجن، (ثم يُبرّأ هو والنهّابون الذين كانوا حوله)؛ حاكم آخر يستعجل العودة ويقرر توزيع ما يقارب 130 مليار دولار على شعبه، وآخر يتنازل عن كثير من الصلاحيات؛ وآخر مدّ الثوار بالسلاح من أجل تحويل الثورة إلى حرب أهلية. وتشكّل حلف محاربة الإرهاب الذي انضمت إليه جميع الأنظمة لمواجهة شعوبها. تناسوا أن «داعش» و «النصرة»، كما «القاعدة»، قد خرجت من رحم النظام العربي، وأن الأنظمة تلاعبت بالحركات الدينية منذ السبعينيات، واستخدمت التنظيمات التكفيرية في الصراع بينها؛ وغاب عنها جميعاً أن الغول الذي تربيه يمكن أن يأكلك.
بالطبع تعرف الأنظمة كيف تستعين بالخارج من أجل مواجهة مجتمعها. تركيا تعتبر الوطن العربي «مدى حيوياً». إيران يتوسع نفوذها وأكثر من ذلك. الولايات المتحدة ترى في حركة الشعوب ما يهدد «مصالحها القومية». الجميع يرون في المنطقة مسرحاً للصراعات. فلتكن الحروب الأهلية. ولتُستخدَم المشاعر الدينية الطائفية والمذهبية. وليعتبر كل فريق أن وجوده مهدد لا من النظام بل من الطائفة أو المذهب الذي يجاوره. حصل كل هذا وما يزال يحصل. الأكثر من ذلك؛ تعاني بعض المناطق تطهيراً عرقياً مذهبياً. كل المقاتلين الفعليين فقراء مهمشون ولكن الهوية الطائفية والمذهبية تقدمت عندهم على الهوية الطبقية وعلى الوعي الطبقي. أما الوعي القومي العربي فهو يستخدم بكل كفاءة ضد قطر غير عربي مجاور. ولا يقصّر قادة هذا القطر في إثارة النعرات القومية. ربما شكك البعض بوجود القوميات، لكن النعرات القومية موجودة. وقديماً قيل إن الأعراق غير موجودة لكن العصبية العرقية موجودة والتمييز على أساسها (Apparthid) موجود؛ حتى في الولايات المتحدة التي اعتبرت أنها تخلصت منه.
في الماضي كتبنا عن الموضوعية والحياد. ميّزنا بين الاثنين. قلنا بضرورة الموضوعية في كل الأمور، وضرورة الانحياز في كل موقف؛ أي أن الحياد غير ممكن. وكان ذلك في أيام تبلور الصراع بين التقدمية والرجعية، بين القوى الثورية والقوى المضادة للثورة. أما الآن فإن أي موقف منحاز للشعوب، التي يُحرق بعضها بالطيران، فإنه يفسر مباشرة بأنه خيانة لقومية لم يجر التخلي عنها في أي يوم من الأيام. كلما سألت عن مصير الثورة والثوار، يسألونك: أين الموقف المعادي للفرس والتواطؤ الشيعي؟
لا يدرك هؤلاء السائلون أن الأسس التي ننطلق منها في التحليل هي غير أسسهم، وبالتالي تأتي الأجوبة والمواقف مغايرة لهم. لا نجد مناصاً من الإصرار على الانحياز للشعب في جميع ثوراته، وعندما تغيِّب الأنظمة العربية وغير العربية قضية الشعب في خضم الحروب الأهلية، فإننا مضطرون للنفاذ برؤيتنا من خلال ضباب دخان الحرائق لنحاول رؤية قضايا الشعب المغيّبة والتي لا بد وأن نعود إلى أولوياتها يوماً ما.

(السفير)

السابق
عينا هدى الخائفة من فوّهة الكاميرا
التالي
صلبوه.. على جلجلة بعبدا؟