التمييز ضد المحجبات والملتحين ليس علمانية

هناك خطابٌ مبتذل وقمعي يُروّج في الحديث عن المتدينين.. أعني تلك اللغة التي بدأت تتصاعد من بعض مُحْدِثي العلمانية (على وزن محدثي النعمة)، الذين استفاقوا فجأة وتنبهوا إلى أن هناك حجابا ونقابا ولحى ودينا يتحكم في ملبس وحياة وموت مجتمعاتنا. بات شائعا أن تطالعنا كتابات وآراء تجرّم الملتحين وتدين المنتقبات وتحاكم هيئات الناس بشكل عشوائي، متسلحين بذاك النفور والخوف العام الذي تسببه ارتكابات الجماعات المتطرفة.

ليس النقاش هنا من موقع التدين، بل على العكس هو من موقعي كمنحازة كليا إلى العلمانية والحرية الشخصية والليبرالية، وهذا تماما ما يجعلني أجد ذلك الاستسهال في الهجوم على فكرة الحجاب والنقاب واللحية بالشكل الحاصل من قبل البعض لا يقل تخلفا عن التشدد والعنف وقمع الحريات باسم الدين. فإن يجرى تعميم الإدانة والكراهية والسخرية من مظهر أي متدين أو محجبة أو منقبة على هذا النحو من التبسيط والتسطيح، ليس تحررا ولا يجلب أمنا واستقرارا.

أن ننجرف وراء خطاب عام يُشيطن المتدينين، ويحولهم جميعا إلى كتلة واحدة صماء ندينها ونحاسبها ونسخر منها ليس سوى انحدار جديد بسويتنا، وإضعاف لنقاش عميق وحرّ نحتاجه بشأن القناعات الدينية والثقافات التي تكرس واقعا منافا لحقوق المرأة والإنسان.

نعم، نحن نعيش لحظة تصاعد خطر التطرف الديني، لكن هذا ما كان ليحصل لولا الاستبداد الذي حكمنا عقودا باسم الوطنية وباسم العسكر وباسم محاربة الإمبريالية والصهيونية. بل إن أهم وجوه الاستبداد وأبرز شخصيات القتل والإبادة الجماعية هم من مرتدي البزات الأنيقة ومن حاملي لواء العلمنة.. لم يكن إدولف هتلر ولا جوزيف ستالين ولا صدام حسين ولا بشار الأسد من أصحاب اللحى ولم تكن زوجاتهم منتقبات.. كان هؤلاء من أكبر قتلة القرن العشرين، وإن شئنا الاسترسال في اللائحة فسنجد المزيد.

إذا كانت التنظيمات المتطرفة تمارس العنف اليوم بسبب إزاحتها من السلطة أو بسبب هوسها بها، فإنّ هذا العنف الذي يغلّف فكرها مسؤول عنه النظام العربي نفسه، الذي نمت في كنفه تلك التنظيمات عبر وسائل متعددة. لقد جرت استباحة المجتمعات من قبل التنظيمات الدينية من خلال تواطؤ السلطات معها، ومن خلال استغلال المؤسسات الدينية التي عممت ثقافة التحريض والكراهية عبر الإعلام وعبر التعليم القائم على القتل ورفض الآخر. لم تنمُ التنظيمات الدينية بغفلة عن الأنظمة التي كانت تقمع تلك التنظيمات من جهة ثم تفسح المجال لفكرها المتشدد من جهة أخرى.

ذاك الوحش الذي يرتدي لبوس الدين لم يسقط من فراغ، بل إن الأنظمة صنعت مكوناته الأساسية، وهي مسؤولة عن انفلاته اليوم، ومواجهة هذا الخطر لا تكون مواجهة أمنية فقط، بل إن في حصر معالجة التشدد والإرهاب بشقه الديني لطالما أعاد إنتاج منظومة الخطر نفسها.

العنف الديني مزيج من عقل وثقافة وتقاليد وخرافة أيضا ومجابهته تحتاج إلى خوض مسار سياسي وفكري وثقافي.. نحن لا نواجه أفرادا بل جماعات واسعة منتشرة، ما يعني أن مثل هذا المسار مشروط قبل كل شيء بتوسيع هامش الحريات لا خنقها وبتأكيد تقبل الآخر لا صده وقمعه والتمييز ضده كما يحصل اليوم.. محاولة احتواء وضبط القتل والعنف باسم الدين لاتتم بتعميم الكراهية والرهاب من المحجبات والمنقبات والملتحين.

والهجمة العشوائية والعنصرية ضد المتدينين لا تفيد المنادين بالمجتمع المدني بل هي تضعف حجتهم. فالعلمانية كصيغة من صيغ الفصل بين السياسي والديني وبين القانوني والديني هي وسيلة لضبط المختلفين، والمساواة بينهم وتحول دون ممارسة العنف ضد الآخر، بل تتحول الأسباب التي تتخذ كذرائع للعنف إلى حوار ونقاش.

العلمانية لا تعني بأي حال نزع الحجاب أو النقاب بالقوة أو حلق اللحى بالضغط والإقصاء لكنّها تعني مراقبة أي شخص أكان متدينا أم لا عندما يتحول الى خطر يهدد المساحات المشتركة والعامة، وعندما يجري المس بالمساواة والحرية.. الدولة التي نخشاها هي تلك التي لا تساوي بين المؤمن وغير المؤمن وبين النساء والرجال، فتلك المساواة هي التي تحمي المعتقدات وتحمينا منها في الوقت نفسه.

(dotmsr)

السابق
حزب الله سلّط اعلامه على السنيورة لضرب شهادته أمام المحكمة
التالي
السنيورة للمحكمة عن الحريري: كشفنا محاولات عديدة من حزب الله لإغتيالي