أمٌّ تُخرِجُ ابنها من القبر

تقولُ له يا نورَ العين كُفًّ عن الرحيل وتعالَ ليومٍ واحدٍ فقط. تعالَ ككذبة الأطفال لدى اقتراف الخطأ. تعالَ لأشعرَ بالعيد. لأضحك…

لا أحد حولها إلا الصور. ابنها صورة. ترمقه بعينين من حرقة الدمع. كيف في عزِّ الشباب لا تتكلّم؟ لا تتحرّك. لا تحلّ في مَوْضع. لا تتنفَّس. ولا تهمس “ماما” حين يشتدّ الوداع؟ تدنو من صورته، تهزّها، تعرِّضها للحياة، تضخُّ فيها النَفَس. تلاعبُ شعرَه. تبحث عن نهاية بُعدٍ طال. تخور قواها. يخذلها العُمر. تأتي بسجدة صلاةٍ (مصلّية)، تفترشها جانب القبر، تشاء منها صلة عميقةً بالساكن فيه. تُكثر ذَرْفَ الدمع. تنهار. يُغمَى عليها. ترتمي تحت قدميه…

الأمّ مُخرِجةً ابنها من القبر
تشعرُ بنكزةٍ تحاول إيقاظها. “ماما، لماذا تنامين تحت قدميّ؟ أنا لو أملكُ أن أعودَ لرقِّيتُكِ في المرتبة. لجعلتُكِ في العلياء جداً. انهضي”. هالَ الأمّ ما ترى. ابنها يسألها أن تنهض. “أن أنهض؟! كان عليكَ أولاً ألا ترحل. كيف تطالبني بالنهوض بعدما هَدَدْت الحَيل، وامتصَصْتَ من هذا القلب النبض؟ منذ الغياب وأنا أشاءُ لو ألحَقَ بكَ فلا يحلّ عليَّ الحادي والعشرين من آذار إلا ونحن معاً. أُرجِئ في كلِّ يومٍ تذكُّرَ مدى انشغالكَ بي في هذه المناسبة. أُرجِئ رفضكَ مبدأ “الهدية الرمزية”، وسعيك، رغم المال القليل، الى الانهماك بشراء الأغلى. كيف أستعيدُ إصراركَ على القول بأنني هديتُكَ، والتباهي أمام أصدقائكَ بأنني أجمل الهدايا؟ أَوَتسألني النهوض؟ إنني يا بُني لو أمضي ما تبقّى من العُمر تحت قدميكَ، لن أتذمّر. يا صغيري، لا. لن أنهض”.
– تؤلمينني يا ماما الغالية. أُدركُ ما صنع بكِ الفراق. لكن أنّى السبيل لأحول دونه؟ لم تُرخِ المعركة خيارات شتّى. تَبِعتُ واجبي وديني وسألتُكِ الصبر والرضى. كان لا بدّ أن أكون هناك. وأن ألتحِق بمن سَبَق. تركتُكِ لأنّ لحظتي حانت. إنني يا أمي شابٌ يؤمن بأنّ “الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء”. وأؤمن بنهجٍ نشأتُ عليه وبالمكانة المُنتَظرة. لا تفوّتي عليّ هنائي. لا تستكثري عليّ ما أفعل. انهضي يا أمي لأقبّلَكِ.

– تعالَ يا جرحَ الروحِ لألمسك [تقترب منه]. تعالَ لأشمَّ ما أمكنَ منكَ. لألمَحَكَ خارج الصورة. وأراكَ تضحك. يا ماما إن لمتُكَ فافهمني. ذلك لأنّ الداخل جمراتٌ تكوي كيَّاً. وانكسارات ووقتٌ يَغرق في البطيء جداً. ألومُكَ مِن فرط الشوق ولا أتجرَّأ على لومٍ آخر. أعاتبُ فيكَ غياباً يبدو طويلاً ولستُ أقوى عليه. يُنقِصُ عمري يوماً بعد يوم. وكلّ نَفَسٍ ولحظة. إن حاولتُ النهوض فسأجدني أنهضُ من أجلكَ. متى أعدتَ الغيابَ يعود الانهيار من تلقائه. لستُ استدعيه، فلا أملكُ ترف استدعاء سواكَ. هات يدكَ. تعالَ ننهض معاً.

– كفِّي يا أمي عن هذا. تسلكين سُبل مَن لا يؤمنون بالنهج. كيف بكِ تتلفَّظين بعبارات اللوم؟ كيف بكِ تشين برغبة في رفض ما حصل؟ ألعلِّكِ تتمرَّدين؟ ألعلَّكِ تجاهرين بالعبث؟ انطقي أمّاه. أولستِ تباركين شهادتي؟ أولستِ ترفعين رأسكِ عالياً؟ يا أمي متى شعرتُ بالعكس سأغرب عنكِ إلى الأبد. أُريدكِ أن تسعدي. رحلتُ من أجل ألا أراكِ باكية.

– يا حبيبي كيف أسعد ورحيلكَ يحول دون السعادة. إن اشتدّ الحزن وطفَح الوجع، فذلك لعُمقِ ما أشتاق وليس بدافع الملامة. أردتُكَ سالكاً درب الصالحين ولستُ لوهلةٍ أندمُ على هذه النشأة. لكنّي ما اعتقدتُ أن أفقد كلّ سعادةٍ ما إن ترحل. وأن أخسر وجودكَ الأروع. يا بُني لو عاد الأمرُ لي لأغلقتُ عليكَ دروب الرحيل كلِّها. ليس لأني أبخسُ حجم التضحية وأرفضُ زغردة النسوة فوق النعوش المرفوعة. وإنما لأنّ الفراق كَسَرَ ما فيَّ من تحمُّل. أرداني. هَبَط عليَّ كنهاية العُمر. ما أيامي المقبلة سوى لأن أبكيكَ وأتحسَّر؟ يا أمي هاتِ الهدية. لم أسألكَ يوماً شراء الهدايا، واليوم أفعل. عساني بذلك أمسكُ بكَ بينما تقدِّمها إليَّ وأزجُّك حيث إمكان لقائكَ يتحقق. آتني بالهدية يا بُني. آتني بكَ يا هدية عمري.
– أجدكِ يا أمي محض عواطف تتعذَّب، وأجدني أعجزُ عن شرح عدم ضرورة هذا العذاب. أنا حيث أشاء المكوث، فلمَ تريدينني حيث تشائين أنتِ. إنّ من فضائل الأمهات، يا أمي، العطاء، وأجدكِ تودّين أخذي. أحارُ هل تفكرين بي أم بكِ؟ هل تريدينني حياً من أجلي أم من أجلكِ؟ انهضي يا أمي وكفّي عن سلوك الأطفال. كنتُ قررتُ المصير الذي أودّ. أدركُ أنّي خلَّفتُكِ ورائي بقايا جرح. لكنّه جرح لا يُقابَل بالعويل المُنْزَل على “العاديين” من الموتى. أشعرُ أمام ما تفعلين كأنني لا أستحقُّ الفخر. تصبَّري أمّاه. لا أطلبُ إلا الصبر.
– يكفيني أن يتراءى لي صوتكَ عذباً بعد صمت. سأبحثُ عن محاولات الصبر. ليتكَ تختبره فتدركَ كم مِن الجهد يتطلَّب. يا بني أنتَ عيدي، فإن لم تأتِ إليَّ سأذهب إليكَ من غير أن أكترث لسواكَ شخصاً…
تدخل امرأة لا حجاب على رأسها، وجهها لا يشي بأسى زائرات القبور، تتوجّه الى الأم المفجوعة، تخترق حميمية لحظةٍ تجمعها بابنها، وتقول:
– اسمحا لي بالتدخُّل. سمعتُ، ببعض القصد، ما أنتِ [الأمّ] عليه من مَصاب. ابنُكِ مُحقٌّ في رفض النواح عليه. دعيه يهنأ. لا تظنينني من خارج هذا النهج. لا يغشَّنكِ السفور والتبرُّج و”الحياة المعاصرة”. ابني في المعركة. يقاتل كما قاتل ابنُكِ، ولستُ استبعدُ أي مصيرٍ مشترك. وإن سألني رأياً في خوضه الحرب، سأقول له: إياكَ أن تتراجع. أقدِمْ يا بني فما علَّمتُك إلا الإقدام. كن في الصدارة. في خط الدفاع الأول. بسلاحكَ ننتصر.
ترمقها الأم كأنها تُقابِل قوّتها بالحسد وتشاء لوهلةٍ أن تملكها. تتساءل في قرارتها: كيف تتحلّى بهذه القوّة وابنها في خطر؟ تتوجّه إليها: لكنكِ لستِ تفقهين وجعاً أحمله، فيما أنتِ بالكاد تتقلَّبين في القلق. عساكِ لا تعيشين هذا الفَقد.
تقاطع الزائرة: حتى أني لستُ قلقة. سلَّمتُ لله ابني وهو خير حامٍ. سلّمته ولداً ربيته لموقفٍ كهذا. ابني ليس في خطر. الخطر لحظة يتخلّى الله عنه لعلمٍ بأنه خَرَجَ عن الصراط. المؤمن لا خوف عليه. وإن اختير شهيداً فهذا فخر. سأزفّه. وأنثر الأرزّ عليه. وأمضي بقية العُمر أفاخرُ بأنني أمُّ الشهيد التي أنجبت بطلاً. وأجدّدُ الوعد بأني وإخوته على الدرب.
تراءت للأم ثنائية هائلة: هي التي باتت سوداء الروح والملبس، يحرق فراقَه ما تبقّى منها، فيما الزائرة تأبى الاحتراق وترفض أن يراها الحيُّ والميت مكسورةً تتعذب. فجأة تلتفت لرغبةٍ في الاعتذار الى ابنها، فلا تجده. تنظر حولها، فإذا به ضاحكاً في صورة. “هديّتي أن أشعر بسعادتِكَ يا ماما. أن ألمحها من بعيد فأهدأ. ليس في هذا العيد مِن جرحٍ يفوق غيابكَ. ينزف فيَّ أحمرَ قانياً بلون وردة. لن أقول بلون الدم لأنّ دماءكَ لا تُشبَّه إلا بها”.
تسمع صوتاً آخر يناديها: “ماما. يا ماما. ليش نايمة هيك؟ قومي”. ابنها الأصغر يدعوها للنهوض من نومٍ باغتها على سجدة الصلاة في انتظار آذان الفجر. هو الآخر ذاهبٌ الى الحرب مع شروق الشمس…

المصدر: النهار

السابق
منقارة: لاستراتيجية عربية وإسلامية موحدة لمواجهة الارهاب
التالي
يزبك: لتطبيق القانون واقامة العدل بعيدا عن الحسابات الخاصة