مازالت تربي الأمل

لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يصرّ على سلمية حلمه منذ أكثر من مئة يوم وهو يواجه القتل، لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يحمل وحدته مثل درع في مواجهة الطائفية والتفكك.
العرب غسان زقطان [نُشر في 17/03/2015، العدد: 9859، ص(14)]
في السنة الرابعة للثورة السورية أفكر أن أولئك الذين منحوها اسم الثورة ومعناها العميق هم من يمثلها؛ الذين يتنفسون في هذه اللحظة تحت أنقاض المدن والبيوت التي تحوّلت إلى مدافن.
الأولاد الذين كتبوا على جدران المدرسة في درعا، بأخطائهم الإملائية “الشعب يريد تغيير النظام”، الأولاد الذين تعذبوا في أقبية المخابرات وبكوا وماتوا، لأنهم مجرّد أولاد ولأنهم لا يعرفون.

الفتيان الذين خلعوا قمصانهم وشقوا صدورهم أمام رتل الدبابات، الذي كان يتقدم على الطريق السريع نحو مداخل المدينة، وهم يصرخون على القذائف: سلمية، سلمية.

المغني من حماة، الشاب البسيط ذو الشارب الخفيف، الذي يذكر بسينما الخمسينات وقاطفي القطن، والذي غنى عبر ميكروفون مدرسي بدائي بصوته الريفي، لأكثر من نصف مليون متظاهر في ساحة العاصي “سوريا بدّا حرية”.

نفس المغني الذي وجدوا جثته طافية على النهر بعد أن اجتثوا حنجرته، هل كان اسمه إبراهيم. الأجساد الكثيرة التي طفت على مياه العاصي منذ تلك الصبيحة، مثلت تقويما دمويا لأحلام مازالت تدق أبواب البيوت والحارات، وترمق الصور الموشحة بالسواد على الجدران.

المسيرة النسائية الصغيرة في باب توما، لم تكن مسيرة بقدر ما كانت مغامرة مبصرة مع عشرين شمعة. الحلقات المتكاتفة في الأحواش وتحت الضوء الخفيف للحارات المنزوية وهي تقفز كمن يبحث عن جناح وفضاء.

التوابيت المكشوفة التي تطوف في جنازات الليل على الوجوه االمسمرة في ليل لا ينتهي ولا يبدأ، الهتافات الواضحة التي تصل من العتمة ومن خلف طبقات الركام والمقابر الجماعية والأجساد الطافية على مياه النهر، تلك التي مازالت تتنفس في المساحة التي تضيق، بين وحشية النظام وهمجية الظلاميين ودهاء السياسة وانتهازية العالم.

هناك تكمن الثورة السورية بعيدا عن كل هذا الصراخ الذي يحيط بسوريا ويسرق صوتها وحلمها. هناك بالضبط تكمن الثورة متقشفة وواضحة وشجاعة، كما ينبغي لثورة نبيلة أن تكون.

مرة كتبت، في الشهور الأولى لانطلاقة الثورة، قبل أن يتسلل إلى حلمها قطاع الطرق وسارقو الثورات ووكلاء الموت، بعدّتهم وسكاكينهم، قبل أن يمتهنوا الأمل الذي رباه السوريون في بيوتهم ويحوّلوه إلى رغبة في القتل ومظلة للانتقام:

“الغناء في الثورة حيوي لأنه بسيط، الثورات التي تغني هي ثورات قادمة من بيوت الناس ومن أحلامهم، وفي سوريا ثورة مغنية، ثورة السوريين تمتلك حلمها ومثل شجرة عنيدة تواصل إضافة أغصان وأوراق وثمر إلى جسدها المتعاظم.

لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يصرّ على سلمية حلمه منذ أكثر من مئة يوم وهو يواجه القتل، لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يحمل وحدته مثل درع في مواجهة الطائفية والتفكك، لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يرفض التدخل الأجنبي في وطنه وهو يواجه طلقة الأخ والشقيق المسلح، لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يواصل دفن أولاده كل يوم منذ مئة يوم دون أن يشك في حلمه ودون أن تهتز يده التي تحمل أكفانهم، وكأنه في صبره وعناده ذاك يكثّر حلمه ويبنيه”.

مازالت الثورة السورية تتنفس من ذلك الوهج، ومازالت تمنحه للسنوات الأربع بقوة البداية المذهلة، مازالت تتحرك هناك وتهتف وتغني وهي تواجه جلادها، جلادها الذي تعدّدت أقنعته وتبدّلت لغته، مازالت هناك تربّي الأمل.

السابق
فشل «داعش» ونجاح «النصرة»
التالي
إختتام فعاليات مهرجان صور الموسيقي الدولي