تخريب وادي الكفور.. شاهد حيّ على جريمة المكبات العشوائية

تعيش النبطية ومنطقتها منذ أسابيع حالة من القلق، ويتبادل أهلها ونشطاؤها تساؤلات مشروعة بشأن ما سيحصل لملف النفايات المنزلية للمدينة وبلدات وقرى اتحاد بلديات الشقيف، بل ونفايات كل منطقة النبطية، واقليم التفاح؟

يتنقل هذا الملف منذ سنوات من مكب عشوائي إلى آخر. فبعد أن أتم مكب كفرتبنيت العشوائي، المتربع على كتف نهر الليطاني، مهمة تشويه وتلويث أجمل منخفض على سفوح كفرتبنيت، المطلة على وادي “الحمرا“، حيث يتدفق نهر الليطاني نحو جسر الخردلة. ذلك السفح الذي يرتسم لوحة جمالية طبيعية رائعة، مزركشة بزهور الربيع الزاهية، والممتدة على مدى الهضاب…

هذا المنحدر المتدرج من حرج كفرتبنيت إلى وادي الخردلة، أصبح ملاذا للذباب الأزرق والروائح الكريهة، وانتشار الانبعاثات الضارة، موزعة مخاطرها في كل اتجاه. وبعدما تمكنت تحركات الأهالي من إقفال مكب كفرتبنيت العشوائي، تملك الارتباك المسؤولين في بلديات المنطقة، وتنقلوا من منخفضات زوطر الغربية وميفذون، حيث حال اعتراض الأهالي دون إقامة مكبات عشوائية مستحدثة في ربوع قراهم الهادئة، إلى هذا المكان وذاك، إلى أن استقر مؤخرا مكبا عشوائيا في وادي الكفور، في السهل الممتد غربا، مع انحرافة نحو الشمال الغربي عن سهل فخر الدين، بين هضاب النبطية باتجاه منخفضات جنوبي دير الزهراني وحبوش.

المكب الجديد يقع المكب العشوائي على أرض مقلع مقفل منذ زمن، وفي سهل كنا نعتقد أنه لا يزال سهلا زراعيا. كان يصنف في تلك الأيام من أخصب الأراضي في المنطقة، حيث زهت بساتين “افتيموس” وانبعثت منها روائح زهر الليمون، لتنتشر في ربوع “خلة الهواء” و“حي الراهبات“، ليصل عطرها “حي البياض” و“سوق الإثنين” في “مدينة العلم“، حاضرة جبل عامل.

ولم يصدق الظن، فاليوم، ذلك السهل الأخضر قد غزته المنشآت الصناعية، ومزارع المواشي والدواجن، ومشاغل غير مشروعة لحرق الكابلات المغطاة بمادة PVC البلاستيكية، لاسترداد المعادن القيِّمة من نحاس وألمنيوم، مطلقة في هواء المنطقة سخاما مشبعا بـ“الديوكسين” و“الفوران“، وهي سموم تكفي بضعة جزيئات منها للتسبب بأخطر الأمراض وأكثرها هولا.

لقد قيل أن معظم هذه المنشآت غير مرخص، أو يحمل رخصة لنشاط مغاير… بل من العجب أصلا أن يكون هذا الوادي، المنبطح سهلا زراعيا خصبا ما بين الهضاب، والذي يطفو على أكبر خزان جوفي للمياه في كل منطقة الجنوب، وصولا إلى سهل مرجعيون والحولا، وهناك، نعم هناك، على امتداد هذا السهل السائب، تقوم آبار “فخر الدين” الشهيرة، التي تمد بمياه الشفة اثنتين وخمسين بلدة وقرية في النبطية ومنطقتها.

من العجب فعلا، أن يكون قد حطت عليه اللعنة، ومسخ منطقة صناعية، لا يتوافر فيها شيئا من المواصفات المناسبة لتصنيف جائر كهذا. من هي تلك السلطة الغاشمة و“الغشيمة“، التي مسخت هذا السهل الخصيب منطقة صناعية فالتة؟ الصورة تتكرر المكب العشوائي، في سهل الكفور، لا يختلف من حيث فظاعة موقعه، وطريقة العمل فيه، ورمي النفايات بين جوانبه، عن كثير من المكبات العشوائية المنتشرة في ربوع كل لبنان.

سبق أن زرنا مكبات عشوائية في كل المناطق، فالصورة هي هي لناحية كل المؤشرات، وربما أيضا لناحية خبايا التشغيل، والفساد المعشعش في آليات تخليق المكبات العشوائية وانتشارها، على حساب العقل السليم، في تحقيق إدارة سليمة بيئيا، وآمنة صحيا، وعقلانية لناحية استرداد القيمة المادية الموجودة في النفايات، عبر التدوير والتسبيخ وغيرها من الخيارات الآمنة والمتاحة، ومعقولة الكلفة.

كنا نظن أن الأمر يختلف في مدينة “العلم“، لكن الظن يخيب. كان ينبغي له أن يكون مختلفا لألف سبب وسبب، ولكنه ليس كذلك، بكل قسوة ليس كذلك. مشاهد “حية“ هناك قسم قديم من المكب، يعلو لنحو خمسة عشر مترا، سبق وتراكمت فيه كميات كبيرة من النفايات، مغطاة بالتراب دون عناية، تنهش فيه نارا تنبعث من جوفه، وتنتشر الأدخنة لحريق تلقائي، ينتج عن تولد غاز الميثان من التفكك اللاهوائي لمكوناته العضوية. وكنا قد تعلمنا، أن هذه الحرائق العشوائية للمكبات العشوائية هي الأكثر تلويثا للهواء الجوي، حيث تنبعث منها منتجات الحرق غير الكامل لخليط عجيب من المواد والمركبات، وهي تشتمل على لائحة طويلة من الملوثات السامة والضارة، وبعضها يستقر في أوساط البيئة لسنوات متنقلا بين الهواء والتربة والمياه السطحية وصولا ليتسرب للمياه الجوفية. وعلى بعد أمتار من القسم القديم هذا لمكب الكفور العشوائي، تظهر بركة لسائل أسود اللون، تجمع من عصارة المكب، تتركز فيه كل سموم المكب المعتصرة من أحماض عضوية ومعادن ثقيلة ومركبات عضوية وغير عضوية، ذائبة ومعلقة. تتسرب هذه العصارة إلى أعماق التربة، مخترقة صخورا مشققة، مهددة التربة الزراعية بالتلوث، وحوض الماء الجوفي، الذي يستقر في عمق هذا السهل وعلى امتداد مسافات طويلة. يقع القسم الجديد من المكب العشوائي، على المنطقة المرتفعة من موقع المقلع القديم، حيث تتراكم النفايات على مساحة واسعة، منزلقة على منحدر لعشرات الأمتار. تفرغ الشاحنات حمولتها، آتية من بلدية النبطية، وبلديات اتحاد بلديات الشقيف، وقيل أيضا أن نفايات إقليم التفاح ومنطقة جزين تنتقل حديثا إلى هذا المكب العشوائي، الذي استعاد شبابه منذ مدة. أطنان من النفايات ترمى يوميا في هذا الموقع. درس في الإدارة السليمة هناك كما في كل مكبات لبنان العشوائية، فضلا عن دخان الحرائق التلقائية، تلتقي بمن ألهمهم الله فن الفرز بالفطرة، وألهمهم المعرفة بأن في النفايات موارد لها قيمة، أمرنا الله أن نستعيدها، ولا نبذر بها، فالإسراف في تبديد الموارد ذات القيمة، مكروه عند الشاكرين…

تراهم ينقبون، فيبدعون في تجميع ما سهل حمله من بلاستيك، ومعادن، وأشياء أخرى، يبيعونها ليسدوا بها جوعهم وعيالهم. إن هؤلاء البسطاء، العلماء بالفطرة والحاجة، يعطون الجميع درسا في الإدارة السليمة للنفايات. فهم لا يلقون المحاضرات، ولا يكثرون الكلام، بل علينا استخلاص الحكمة مما يعملون. ففي النفايات موارد لها قيمة، يأتون لفرزها وجمعها وبيعها. إذن، ما يجمعونه “بضاعة” تباع وتشرى، فلماذا لا نتمعن في هذا ونستخلص العبر؟ من هذا المكب العشوائي، تنبعث روائح الزبالة المتعفنة، وينتشر الذباب الأزرق، والحشرات والقوارض، وفي الربيع والصيف يشتد حشدها لتسيطر على كل الأجواء القريبة والبعيدة.نفايات

منذ الآن، انطلقت الحرائق التلقائية، وتنبعث الأدخنة الحاملة للروائح الكريهة، والسموم الضارة والمسببة للأمراض، منتقلة لمسافات طويلة، نعم لمسافات طويلة تقاس بعشرات الكيلومترات، باتجاه الريح السائد في المنطقة، الرياح الجنوبية الغربية، السائدة في معظم أيام السنة، ناقلة روائح المكب العشوائي وأدخنته وسمومه إلى قرى “حبوش” و“دير الزهراني” ومنطقة إقليم التفاح برمتها، “عرب صاليم” و“جرجوع” و“جباع” وغيرها. وحين يتغير اتجاه الريح أحيانا، ولو لفترات قصيرة، فينقلب غربيا، فيصيب هذه المرة مدينة النبطية، وأحياء “كفر جوز” و“خلة الهواء” وأطراف “حي الميدان” و“حي البياض“.

أما في فصل الشتاء، حيث يضرب الريح الشمالي والشمالي الشرقي، فيصيب عندها قرى وبلدات “الكفور، و“تول” و“حاروف” و“زبدين” و“جبشيت” و“عبّا” ، ويطاول أطراف النبطية الجنوبية الغربية في أحياء” الرويس” و“السلام” و“السوق“. المنطقة كبيرة، والمكب العشوائي، القديم الجديد والمتجدد، ينمو كالفطر، وسيستحيل كارثة بيئية كبيرة في فترة قصيرة جدا، في منطقة حساسة جدا، وفي نقطة تحيلها “زهرة الريح” إلى مركز ينشر سمومه على كل المنطقة، ليس بالتساوي، ولكن دون تمييز بالتأكيد. إن الثقل البيئي لهذا المكب العشوائي، والثقل الضميري أيضا على كل المسؤولين، وكل المعنيين بإيجاد الحلول اليوم قبل الغد، يتضاعف مئات المرات إذا ما عرفنا أن على مقربة من هذا المكب العشوائي، المرشح قريبا لأن يصبح كارثة تحتاج إلى جهد حكومي استثنائي لمعالجته، يرقد معملا للفرز والتسبيخ وللإدارة السليمة للنفايات المنزلية، هبة من الاتحاد الأوروبي مقدمة منذ سنوات طويلة إلى وزارة التنمية الإدارية ومجلس الإنماء والإعمار، معملا كامل الأوصاف والتجهيز، ينتظر الاتفاق على موعد تشغيله، وتفاصيل إطلاق العمل فيه.

وإذا ما توافرت النية الطيبة عند من يعنيهم الأمر اليوم، يمكن إطلاق العمل فيه بعد أقل من أسبوع، لتعبيد الطريق إليه ومده بالطاقة الكهربائية، وتجهيز ما يحتاجه من تفصيلات وجزئيات. إن تأخير تشغيل هذا المعمل يثير العديد من التساؤلات المشروعة، ويثير أيضا العديد من الشكوك، ويتيح المجال للعديد من التأويلات والتفسيرات، التي لا تصب بمصلحة أبناء المنطقة، الذين، كما كل الشعب اللبناني، لا يستحقون إلا كل خير، على عطاءاتهم، وتضحياتهم، وتحملهم، وصمودهم. إن الإسراع بتشغيل هذا المعمل، وإقفال المكب – الكارثة هو مطلب ملح ومشروع ومحق، اليوم قبل الغد، وغدا قبل بعد غد، والقرارا بيد المعنيين المؤتمنين على مصالح الناس، ويحملون ثقل المسؤولية عن تحقيقها دون تأخير أو تعطيل أو مماطلة لأي سبب كان. إن ثقة الناس بكم أمانة في أعناقكم، فاحفظوها.

(greenarea.me)

 

السابق
إحباط محاولة لإقامة مركز تخزين دائم للمواد المشعّة في عدلون
التالي
جنبلاط : سأسلّم مقعدي في أيّار وهذا هو تفسير موقفي من «النصرة»