«داعش»: الموجة الثانية من «الربيع العربي»

أثناء زيارة ميدانية إلى ليبيا في نيسان 2011، أخبرني شقيق فخر الدين الصلابي عن آخر لقاء جمعه بأخيه، قبل رحيله بساعات. كان فخر الدين، الطيار في سلاح الجو الليبي، قد اتخذ قراره بالانشقاق عن الجيش والانضمام إلى المطالبين بإسقاط نظام العقيد القذافي. زعم شقيقُ الطيار في المقابلة المسجلة أن قناعة أخيه بالنأي عن النظام، بدأت تتشكل منذ الأيام الأولى لحركة الاحتجاج. إلا أن حسمه جاء بعد مشاهدته تقريراً تلفزيونياً عن قتلى التظاهرات المناهضة للسلطة، على قناة «العربية». حينها، على ذمة الراوي، قُضي الأمر. ساعاتٌ وكانت بعدها الطائرة تحوم فوق بنغازي، في تحدٍ لسيطرة طرابلس المتداعية شرق البلاد. بيد أن الأمر لم يَطُل. إذ شوهدت الطائرة إيّاها، عبر قناة «الجزيرة» هذه المرة، تهوي من السماء بعدما أسقطتها نيران قوات العقيد.

قد تنطوي الشهادات الحية، على أهميتها في توثيق الحدث، على بعض المبالغات. بيد أن الثابت، لكثرة الشواهد وطفرة ما يدعمها من أدلة، أن الإعلام الفضائي الناطق بالعربية، لعب دوراً كبيراً في إعطاء الموجة الأولى من «الربيع العربي» مداها الذي شهدناه، منذ أواخر العام 2010. لذلك، مثلاً، وصف رئيس مجلس النواب التونسي قناة «الجزيرة» بـ «عدوة» بلاده قبل تنحي بن علي بأيام، وأوقِف بثُ القناة في مصر أثناء احتجاجاتها، ووصفها القذافي مع سائر الفضائيات التي تحرض عليه بـ «الكلاب الضالة»، قبل أن يضيف أسَفه لحملات التضليل التي تمارسها «بعض الإذاعات العربية الشقيقة خدمةً للشيطان»..
هكذا، لعب الإعلام المرئي الناطق بالعربية دوراً بالغ الأهمية في تشكيل الوعي وتسويقِ سردياتٍ ونسفِ شرعياتٍ وتحريك جماهير، مكمّلاً الشرارات التي أطلقتها وسائط التواصل الاجتماعي ومستثمراً فيها. ثم بدأت تظهر، مع عنف الأنظمة في ليبيا ثم سوريا، حدود «القوة الناعمة» في تشكيل الحقائق على الأرض، فكان أن مهّدت لتدخل «القوة الصلبة»، متمثلة بالعسكرةِ والتدويل في ليبيا، ونصف ذلك أو أكثر في سوريا.
وما فات المتحمسين لهذه التحولات، أن العسكرة والتدويل ترافقا مع تسويقٍ هائل لخطاب «جهادي»، ظنَّ القائلون به أنه الأقدر على إسعافهم على «التغيير» (ولـ «التغيير» في هذا المقام طيفٌ من المعاني). فكان أن انساق البعض إلى نظرية مفادُها أن «القاعدة» ومشتقاتها قابلة للتوظيف الموضعي، وهي الأكثر فائدة في هذا الإطار: نقاتل بالفاشية «الإسلامية» فاشيةً عسكرية، فننهك الثانية بالأولى ونقيم على أنقاضها نظاماً وفق حسابتنا. علماً أن «الحسابات» هذه كانت متعدّدة الأشكال، إذ منها حساباتُ دول.. ومنها «حسابات» أفراد.
انتهت الموجة الأولى من «الربيع العربي» مع عصف التحولات البنيوية في مشهد التظاهرات السلمية، وفي الخطاب العام المرافق لها والمعبّر عنها. فأخذ بعض المطالبين بـ «التغيير» إياه، يجنح نحو تعبيرٍ وسلوكٍ فاشييْن أو متسامحيْن (وبالتالي متحالفيْن موضوعياً) مع أنماطٍ من الفاشية العقائدية، التي بدأت بنبذ «الآخر» الطائفي، ثم تطرفّت لتنبذ الآخرَ «الليبرالي» داخل الطائفة، ثم الآخرَ «الأقل جذرية» داخل التيار الإسلامي.. وهكذا دواليك.
ووصل بنا مسارُ الأمور إلى نقطةٍ، برزَ معها تحوّلٌ داخل الحركة «الجهادية» العابرة للحدود، توازياً مع تحوّلات الاحتجاجات العربية. إذ طرحت هذه الأخيرة في أدبياتها تصوّراً يُزاوج بين أداء التنظيم الشبَحيّ والعمل داخل بنيةٍ دولتية. فكان أن ولد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وأخذ يتمدّدُ خارج قيود الجغرافيا، ويجهد لـ «تمكينِ» هيمنته داخلها.
وقد بدأ تنظيم «داعش»، كما سائر أقرانه داخل الحركة «الجهادية»، يستقطب الموالين اعتماداً على تقنيات الموجة الأولى من «الربيع العربي» ذاتها. فكانت أدوات التواصل الاجتماعي محرّك بحثه الأول عن المتطوعين «الأمميين»، الذين جعل منهم رأسمالٍ يؤكد شمولية أجندته «الإسلامية». ومع مأسسة عمله وتعقيد شبكاته وتطوير تقنياته، أخذ التنظيم يُرسملُ على الإعلام المرئي لتسويق صورته وتعميم سرديته للأحداث، ولمضاعفة تأثيره على مساحاتٍ من الجمهور، ذاتِ قابلية للتطويع.
اليوم، يجهد تنظيم «داعش» للقول إنه لم يصل إلى الذروة بعد، وإن أوان انحداره، خلافاً لما يُشاع، لم يحن الآن. وفي ابتداعه طرائق «مبتكرة» للتعبير عن رسائله عبر مشهدياتٍ مصوّرة، رغبةٌ بمحاكاة تأثير الإعلام المرئي على الموجة الأولى لـ «الربيع العربي»، وإن كان ذلك يتم بأساليب مختلفة ولغاياتٍ مغايرة.
«داعش» اليوم يقطع الرؤوس بأداء استعراضي، بعدما كانت الانشقاقات عن الجيوش النظامية تُستعرض على الشاشات لقنص شرعية المؤسسات الحاكمة. والتنظيم يُلبس سجناءه الأزياء البرتقالية الخاصة بمعتقلي غوانتانامو وأبو غريب كدلالة رمزية على الثأر، في حين كانت الشعارات ورسوم «الغرافيتي» تُبرز بدلالاتها التعبيرية بعض مطالب الموجة الأولى من «الربيع». بينما يوثق مقاتلوه هجماتهم الانتحارية على مواقع «المرتدين» أو «الكفار»، بعدما كان التوثيق يهدف إلى تأكيد سلمية التظاهرات قبل أعوامٍ أربعة…
تنظيم «داعش» نتيجة طبيعية للفصل الأول من «الربيع العربي» لأسبابٍ شتى. ما ساعد على نموّه لم يكن عنفُ الأنظمة فقط، ولا سعيُ اللاعبين الإقليميين لتوظيف هذه الظاهرة أداتياً، بل استسهال قطاعات «ثورية» التعاون مع كياناتٍ تفوق الأنظمة بشاعةً، وظنها أن الكيانات تلك سهلة التطويع متى جاء موعد انتهاء صلاحيتها.
تنــــظيم «داعش»، بأهدافه وأسلوبه وأدائــــه وتقنياته، هـــو الموجة الثانية من «الربيع العربي». لكنه ليس آخر الأمواج.

(السفير)

 

السابق
الجمهورية تدخل شهرها العاشر من دون رئيس التمديد مجدّداً لعسكريين يُفاقم الأزمة الحكومية
التالي
قمة سعودية – قطرية في الرياض بحثت في مستجدّات المنطقة