رجل من الماضي: يا زمان «الجنرالات»

أبصرت عيناه النور في بلدة بلاط قضاء مرجعيون، فتلونت بسهلها الأخضر الذي يغمر منزله. عيونه الغارقة بين حفر شقتها حوالي المئة عام من تاريخ جنوبي، تخبىء ذكرى طفل كان يلعب بكل قواه. أما تجاعيد جبينه فتروي قصص قرى جنوبية تغير سكانها وضاعت تفاصيل حكايتها مع تبدل سكانها وانشغالهم بمعاصرة التكنولوجيا. تركوا التاريخ للكتب ليتحكم كتَابه بتفاصيل صفحاته متناسين أن بعض أبطاله لا يزالون بيننا.
في زمن العولمة يبقى الحنين إلى بساطة الماضي وطيبة أهله طاغيا على كل منا، ويبقى كبير السن بركة المنزل وعملة نادرة مما يجعل الجلسة معه لا تقدر بثمن.
براءة عيون حسين محمد كلاكش لا تزال موجودة في عيون أبو كامل التي تحمل شقاء 97 عاماً كما تشير أوراقه الثبوتية التي يشدد على عدم دقتها مؤكدا أن عمره تخطى المئة عام.
الطفل الذي أبصر النور عام 1918 لم يعرف سوى ذكرى والد تركه قسراً ليلتحق بقافلة الجيش العثماني، هو نفسه اليوم جدٌ ل 23 حفيداً.
كلاكش رجل من الماضي يحمل التاريخ في ذاكرة صادقة غير آبه بتحوير الحقائق بحسب ما يخدم السياسة التي لا يعرف منها سوى أشكال رجال تختلط أسماؤهم وانتماءاتهم الحزبية، ولا يبقى من سياسة اليوم في باله سوى أشخاص لا يفارقون شاشات التلفزة ونشرات الأخبار، تزول أخبارهم أمام قصص جنرالات الماضي والأم الحنون وجنودها. كما أن كل القصص تتبخر أمام بطولات الجنرال ديغول وإنجازاته في لبنان وباريس كما يقول أبو كامل.
بصمت وابتسامات هادئة يتذكر كلاكش الأرض التي زرعها فأعطته، حديث يمتزج مع كلام لأولاده عن الأرض نفسها التي أحبوها وتعلقوا بها.
لا ينفك الرجل يذكّر الجميع بأنه مزارع وفلاح وراع من الطراز الأول ويفتخر بأنه رجل أميّ وأن الزراعة كانت مصدر رزقه الوحيد التي ساعدته على تعليم أولاده. لا يسأم من سرد الحكايات حول طفولته في قريته الهادئة وفي قرى قضاء مرجعيون المجاورة في حين كان عدد السكان الإجمالي قليل جداً ووسائل النقل تقتصر على الدواب، يخبر أبناءه كيف كان ينتقل من بلاط إلى رميش و”المشوار يأخذ نص نهار وأكثر” ليمكث هناك عند أحد أصدقائه من المزارعين كي يتعلم زراعة الدخان.
غالباً ما يجلس أبو كامل في غرفته حاملا بين يديه تاريخ أرض مروية بدماء أهلها. أرض زرعت بالحروب ومخلفاتها. يحمل طرفاً اصطناعياً رافقه على مدى سبعة وثلاثون عاماً اثر فقدانه قدمه اليمنى في حقل الغام وهو يرعى أغنامه في سهل بلاط، ويحمل معها قصة أربعة فدائين لم يتركوه إلا بعد أن داووه وقاموا ببلسمة جراحه ثم نقلوه إلى أقرب مستشفى.

233a5301-c730-45ac-9db7-67eb6f154943
يفتقد أبو كامل زوجته التي فارقت الحياة ف العام 2006، ورفاق الطفولة الذين لم يبق منهم على قيد الحياة إلا القليل. غالباً ما يشعر بالوحدة خصوصا أنه التزم البقاء في المنزل في الأعوام الأربعة الأخيرة حيث لم يعد قادراً جسدياً على متابعة نشاطه الزراعي. لكن على الرغم من ذلك فهو غير مصاب بمرض مزمن وتذكر ابنته فاطمة أن نظامه الغذائي طبيعي فهو يأكل كل أنواع الطعام.
يمضي أبو كامل وقته في استقبال الجيران والتفكير في كيفية استثمار أرضه بالزراعة منتظراً انتهاء الأسبوع ليرى أولاده الذين يعيشون خارج القرية ليجمعهم ويقسم عليهم المهام الزراعية ويتأكد من أنهم أتموا المهام التي طلبها منهم سابقاً.

المصدر: السفير

السابق
“نسيب لحود ذكرى وعبرة” ندوة لحركة التجدد في ذكراه الثالثة
التالي
ورشة عمل لمكتب اليونيسكو في بيروت “لصون التراث الثقافي السوري” من 9 الى 13 الحالي