تنوعت توصيفات مصطلح الاتجار بالبشر، لكن القوانين الدولية اتفقت على مضمون المصطلح ومخاطره، وسعة انتشاره على الصعيد العالمي، وأيضا في مصاعب مكافحته. فالأمم المتحدة لطالما أشارت الى ارتفاع نسبة الاتجار بالبشر بالرغم من تضاعف عدد الدول المنتسبة الى اتفاقيات مكافحتها.
ووفقا لتقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009 والصادر عن المكتب الإقليمي للدول العربية بدعم من برنامج الأمم المتحدة لانمائي، فان “الاتجار بالبشر نشاط سري ضخم وعابر للدول، وتقدر قيمته بمليارات الدولارات، ويشمل رجال ونساء وأطفال يقعون ضحية الخطف والقسر والاستدراج لممارسة أشكال مهينة من الأعمال لمصلحة المتاجرين بهم من بغاء وتسول واسترقاق بالمديونية، وأيضا في اذلال خدم المنازل”.
وبالرغم من الاتفاقيات الدولية التي أطلقتها الأمم المتحدة، ثم ألحقتها بثلاثة بروتوكولات حول المسألة، ومصادقة غالبية الدول المنضوية تحت قبة الأمم المتحدة عليها، الا أن صعوبات جمة تعتري وضع حد لأخطر انتهاك للكرامة الانسانية من خلال الاتجار بالنساء والاطفال والرجال، وعلى أيدي رجال ونساء من طينة البشر، وبهدف الربح المادي بالدرجة الأولى، اذ ذكر تقرير الأمم المتحدة المعني بمكافحة المخدرات والجريمة أن “8 مليار دولار قيمة الربح السنوي يجنيه الاشخاص الذين يتاجرون بالاشخاص، في حين يبلغ عدد هؤلاء ضحايا الاتجار حوالى 27 مليون شخص من بينهم 50 % ممن هم تحت سن ال 18 عاما”.
وورد في التعريف شبه الموحد لدى الأمم المتحدة أن “الاتجار بالبشر هو عملية نقل أو توظيف أو تقديم ملاذ لأشخاص بهدف استغلالهم، وبالتالي فهي أعمال غير مشروعة وهدفها الربح المادي من منظمات وعصابات”.
تحضرنا هنا كوارث انسانية يعانيها المهاجرون غير الشرعيون من بلدانهم الفقيرة أو التي تعيش الحروب الى بلدان أكثر استقرارا، اذ تعتبر هذه الهجرات نوعا من الاتجار بالبشر، ولطالما عاشوا المآسي بأنواعها من ضروب النصب والاحتيال والاعتداءات الجنسية الى تركهم عرضة لأسماك البحار، أو عالقين على حدود برية، وبالتالي لا يمكننا في هذا المجال التغاضي عما يحصل في مياه البحر الابيض المتوسط على سبيل المثال من عمليات تهريب لأشخاص ينخرطون في الهجرة غير المشروعة، وما يتعرض له هؤلاء من مآس تنتهي بالموت أو الاعتقال أو الوقوع ضحايا الاستغلال المادي، حتى بات البحر الابيض المتوسط مقبرة لهؤلاء تتدافعهم الامواج بين غربة قسرية ومصير مبهم وغض طرف من المجتمع البشري.
ولبنان من بين هذه الدول التي تعيش حالة قلق من قضية الاتجار بالبشر، في ظل غياب معلومات دقيقة حول عدد هؤلاء، لكن لبنان من بين الدول التي صادقت على اتفاقيات الأمم المتحدة ومنها عام 1990 الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل بدون تحفظ، والاتفاقية الدولية لمناهضة الجريمة المنظمة عبر الدول عام 2000 وصدقتها عام 2005.
ومن بوابة هذه المخاطر التي تحتاج الى جهود دولية ووطنية ومجتمع مدني لمكافحتها، خطت رابطة منظمة كاريتاس في لبنان باتجاه وزارة العدل، التي عمدت مع الرابطة يوم 26/1/2015 بحضور وتوقيع الوزير اللواء أشرف ريفي على توقيع اتفاقية حماية ضحايا جريمة الاتجار بالاشخاص مع رابطة كاريتاس عبر رئيسها الاب بول كرم.
وأبرزت الاتفاقية بنودا هامة في كيفية التعاطي مع حماية هؤلاء الضحايا لجهة تعهد كاريتاس بحماية ومساعدة ضحايا الاتجار بالاشخاص لا سيما النساء والاطفال عن طريق تأمين مكان لائق ومجهز بالمعدات اللازمة لإيواهم، وعن طريق التعاقد مع أخصائيين وذوي خبرة في هذا المجال لمساعدتهم، كما تلتزم كاريتاس تطبيق خطة وقائية وعلاجية واضحة في اطار الحماية والمساعدة قابلة للتطبيق والتعديل برضى الفريقين والمراجع المختصة، كما ستقوم بتأمين المهام التي تتيح التعافي الجسدي والنفسي والاجتماعي للضحايا ومنها تأمين السكن، وتقديم المشورة والمعلومات خصوصا في ما يتعلق بحقوقهم القانونية، والمساعدة الطبية والنفسانية والمادية ومحاولة تأمين فرص عمل.
هذه الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ بدءا من 2/1/2015 وصفها الوزير ريفي بأنها “ستتيح للقضاء الجزائي النهوض بدوره الحمائي أسوة بواجبه العقابي، لا سيما أن حماية الضحايا قد أضحت وسيلة وغاية في آن، اذ غالبا ما تكون الضحية هي الدليل الى تاجرها”.
لكن تأخرا طرأ على بدء التنفيذ لدى كاريتاس، وفقا لما قاله ل “الوكالة الوطنية للاعلام” الأب بول كرم “بسبب أن عملية جمع التبرعات التي تقوم بها كاريتاس تتناسب هذا العام مع بدء الصوم لدى الطوائف المسيحية، لذلك سيبدأ العمل بالاتفاقية بعد انتهاء عيد الفصح”.
وسيرافق بدء الحملة، حملة اعلامية واعلامية للتوعية على حماية ضحايا الاتجار بالبشر.
هذه الاتفاقية ليست الأولى في لبنان، لكنها الأولى من منظمة مجتمع مدني، وهو ما دفع بالوزير ريفي الى تشجيع مؤسسات المجتمع المدني الى المبادرة ايضا “ولأن الوزارة وهو شخصيا يمد يد التعاون لأي مؤسسة نظيفة يمكنها القيام بهذه المهمة”، موضحا أن قانون “معاقبة جريمة الاتجار بالاشخاص” انطوى على جانب عقابي وأيضا على أحكام واجراءات تحمي ضحايا هذه الجريمة والشهود عليها، فيكون بذلك أول تشريع في لبنان يضع نظاما خاصا لحماية الضحايا والشهود على حد سواء.
ومن الواجب لفت الانتباه الى ما ذكره الوزير ريفي من أن مبادرة كاريتاس للقيام بهذا الدور كمؤسسة انسانية رائدة لا ترغب بأي مساهمة مالية من وزارة العدل وفقا لأحد بنود الاتفاقية المذكورة، كما أنها ستعمد الى إشراك ذوي اختصاص مكلفين من وزارة العدل بزيارات ميدانية لتقييم عمل كاريتاس سيرفعه الفريق المذكور الى وزير العدل.
يصف الأب كرم في حديثه لـ “الوكالة الوطنية للاعلام” أن الاتجار بالبشر هو الاستغلال الشخصي والجسدي وتجارة الاعضاء من خلال بيع الكلى والعيون وهي غير وهب الاعضاء التي يقدم عليها شخص من تلقاء نفسه وهو ما سمحت به الكنيسة، آسفا لإقدام بعض ناس ممن يقومون بعمليات وهمية ويبيعون كلى وأعضاء لأشخاص ضحايا، مشددا على ضرورة مواكبة لبنان للأنظمة الدولية، رافضا اعطاء صورة واضحة عن استفحال مسألة الاتجار بالبشر في لبنان، ومكتفيا بالقول “هناك بيع للأطفال”.
أما المسألة الأخطر في هذا الموضوع في لبنان فيراها الأب كرم “أنها كل شيء يتنافى مع كرامة الشخص البشري، وهو ما تعمل الكنيسة على مكافحته”، لافتا الى مسألة الخدم في المنازل لجهة استغلالهم جنسيا وماديا وأخلاقيا، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في العطلة الأسبوعية، متسائلا عن حفظ حقوق اللبناني في الخارج وكيف له أن ينتهك حقوق سواه في لبنان.
واذ يشدد على احترام كرامة الشخص البشري وفقا لتعاليم الكنيسة ومنع استغلاله مهما كانت الأسباب، فانه يأسف لضعف التشريع البشري في لبنان فلا يجوز أن يبقى لبنان بعيدا في هذا المجال. وأوضح أن “كاريتاس هي الأولى في هذا العمل، والدولة من خلال وزارة العدل ستتعاون مع كاريتاس تحقيقا للعدالة، لأن عملنا يقوم على التوعية والتنبيه والارشاد ولكن على القضاء متابعة عمله”.
وختم: “نحن نقوم بعمل انساني ويشمل كل انسان على صورة الله وانسانه، ومنهم النازحون السوريون وغيرهم”.
(الوطنية)