عبادة العنف

الإرهاب قد يكون عنفاً استعراضياً، ضربات على الأطراف، ضربات تطال أشخاصاً، قد يكون عنفاً رمزياً قد يكون مجرد تأكيد للعنف، مجرد تلويح بالعنف، لا يضرب الإرهاب في العمق، لا يطال الرأس، لا يسقط نظاماً أو دولة، لكن وراءه نظرية تقول أن الضربات الطرفية قد تكون، في تراكمها، هزهزة للنظام أو الدولة تتيح ضربهما في العمق وإصابتهما في الرأس. ثمة نظرية تقول أن الإرهاب يخلق جواً من الانتفاض والتمرد قد يهيء لثورة. لم يستنكر لينين إرهاب الكومونة لسبب قريب من هذا، لكننا نجد في ذلك جواباً على طبيعة الإرهاب الإسلامي. رغم أن داعش نشرت بين سوريا والعراق دولة وخلافة إلا أنها في الغالب المرة الأولى التي يتوجه فيها هذا الإرهاب إلى غاية كهذه. المرة الأولى التي يرسم فيها لدولة ونظام، لم يكن هذا شأن القاعدة التي لم تعلن هدفاً ولا غاية. كان إنجازها الأول استقطاب إسلاميين من شتى الأقطار الإسلامية، ثمة أممية إسلامية باشرتها القاعدة وصارت بعدئذ أوسع وأقوى في «داعش» كما يتراءى الآن.

أعلنت «داعش» ما بين سوريا والعراق خلافة ودولة إسلامية. إنها المرة الأولى التي يطرح فيها تنظيم إسلامي هدفاً لعنفه ولحربه. هذا إيجاب لم نعرفه من قبل لدى القاعدة التي اكتفت بالسلب، بالتدمير والإرهاب. لم تكن هذه دعوة فحسب بل تحقيق بسرعة قياسية للدعوة. منذ الآن يمكن أن نتكلم عن مشروع وعن بناء وعن نظام إسلامي. لكن الدولة لا تنفك عن طبيعتها الأولى «الإرهاب» إنها تضرب على الأطراف وتضرب بقدر من العنف الأعمى، ما يتراءى معه أن فهما للإسلام لا يفرقه عن العنف الدموي هو ما يسود لدى هذه الحركات. رغم قيام دولة إسلامية ونظام خلافة إلا أننا لا نلاحظ بناء نظام. ما نلاحظه هو استمرار التدمير والترويع. لا يمكننا أن نعرف من ذلك خطة داعش أو فكرتها عن النظام الإسلامي. هنا نحن أمام عشوائية كاملة ونحن أمام سمة غالبة هي الترويع والعنف الدموي بأكثر مظاهرهما استعراضية ومسرحية.
مجزرة شارل أيبدو هي الأولى في فرنسا لكنها ليست الأولى في تاريخ الإرهاب الإسلامي. كل يوم تقريباً هناك حادث مروّع. كل يوم تقريباً في سوريا أو العراق أو لبنان هناك عملية انتحارية تعصف بالآحاد أو العشرات. كل يوم تقريباً هناك إعدامات بالذبح وقص الرؤوس، مهما كان من أمر داعش ومن دعوتها إلى نظام وخلافة فإن أساليبها لا تخرج كثيراً عن أساليب القاعدة، بل أتاح لها انتشارها وتوسعها أن تظهر على الملأ ممارسات تفوق القاعدة، وتتجاوزها في دمويتها واستعراضيتها الوحشية.
من الواضح أننا أمام فهم للإسلام. يمكننا أن نسميه ثوريا بدون أن يلحق بنعت الثورية ذلك المديح الذي اعتاده بعض المثقفين. الثورية هنا ليست سوى شغف بالدمار وعبادة للعنف وتصنيم للذبح والدماء. الثورية هي في هذا الوجه التدميري وفي هذا الاستعراض للقتل وفي هذا المسرح الدموي. لا نعرف من أين هذا التصور ومن أين هذا الفهم. انه بالتأكيد قراءة عرضية للإسلام لا ترى فيه سوى الحروب والفتوحات وسوى السيوف والمقاتل. قراءة كهذه قد تدوم طويلاً وقد تكون مغرية الإغراء الذي للثورات، أيا كانت، وما في الثورات من تفجير للكراهية والضغينة والكبت وما فيها من إطلاق للعدوانية. إغراء الثورات هو في وجه منه هذا التفجير، ولعل الحركات الإسلامية العنيفة إنما تحصد هذا الإغراء وتنطلق منه وتبني عليه.
العمليتان الانتحاريتان اللتان تمتا في جبل محسن جاءتا لتذكرننا بأن جبل محسن ليس في بلد آخر، انه جزء من هذا البلد وما يصيبه يصيب مواطنين من بيننا، والسكوت على أمر كهذا أو على شبهه لا يعني إلا إشاعة التدمير وإشاعة الخراب والقتل الاعتباطي. في بلد للأقليات لنفكر في أصغرها وأكثرها بالتالي تعرضاً للانقراض والإبادة.

http://assafir.com/Article/20/396074

السابق
ضربات استباقية متعاقبة في ذروة المواجهة إحباط عمليات انتحارية في طرابلس وعكار
التالي
نصرالله مستعد للقاء الحريري.. والجامعة العربية تدين موقفه البحريني