الفساد كحلبة صراع «الكبار»

في تركيا، يواصل أردوغان حملة مضادة على شريكه التاريخي فتح الله غولن، بعدما تمكّن هذا الأخير من بثّ براهين مسجلة ومكتوبة عن استشراء الفساد في المؤسسات التركية الرسمية؛ وقد بلغ مداها حدّ الكشف عن تواطوء إبن أردوغان نفسه، بلال، في عمليات فساد نقداَ وعدّاً.

في ايران، يخوض هاشمي رفسجاني، رئيس مجلس تشخيص النظام، حملة على الفساد في إدارات بلاده، يقول عن تلك التي يشرع فيها حسن روحاني، الرئيس الجديد، انها غير كافية ولا تكشف سوى “قمة جبل الجليد”، محملا عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد المسؤولية الكبرى في تفشيه.

في لبنان، يبادر أحد الوزراء الى القيام بحملة على الفساد الغذائي، فتكرّ السبحة، ويسرع وزراء آخرون في فتح ملفات فساد أخرى… المياه والعقارات والخلوي والمدارس الرسمية والتوظيفات الوهمية والخروقات الدستورية الخ.

والسؤال الذي يلح أمام هذا السيل المفاجىء من النزاهة والشفافية هو بكل بساطة: ان كل هؤلاء، من التركي إلى الإيراني إلى اللبناني، هل اكتشفوا فجأة كل هذا الكم من الفساد؟ هل كانوا خلال كل تلك العقود من حكمهم على براءة؟ على جهل بها؟ أم كانوا عاجزين، يتفرجون ولا يملكون أية قدرة على “محاربته”، كتلك القدرة الجبارة التي لبستهم بين ليلة وضحاها؟

والجواب يكمن في السؤال نفسه: كل هؤلاء من دون استثناء، لم يبقوا على هذا المدى من حكمهم، المباشر، أو الضيق أو الواسع، من دون أن يبتلوا بالفساد: غولن شريك أردوغان في الحكم، كان فاسداً وعارفاً؛ وإلا لما تمكّن من تحريك “رجاله” منذ عام، وفي توقيت واحد، للكشف عن فساد كانوا يتعاملون معه بروتينية، طالما انها تخدم حزبهم. رفسجاني، الذي لا يعرف وحده بصفته الشخصية فاسداً، إنما أيضا ابنته فائزة وابنه مهدي، المتهمان مباشرة وقضائيا بقضايا فساد بائنة. الوزراء اللبنانيون، كل بحسب كتلته، يعرفون جيدا وعميقا ملفات الفساد هذه، ولا واحد منهم إلا ومتورط في العشرات منها. فالزبائنية القائمة بين الزعيم الذي يسمي وزراءه، وبين “رعاياه” تقوم على أعلى الدرجات الممكن تخيلها من الفساد.. وبعد ذلك يصعد الى المسرح المشهد المبكي المضحك، وأبطاله فاسدون يفضحون فاسدين.

ولكن، لماذا الآن؟ لماذا تنفجر الآن، بعدما انفجرت مرارا في أيام سابقة، فسكتت تدريجياً، لتعود اليوم بأقوى مما كانت؟ لأن الصراع احتدم بين الأجنحة الحاكمة، وليس هناك قانون أو تقليد أو مؤسسات تنظم هذا الصراع على النحو الواضح والقانوني. كل هؤلاء “الكبار” الأتراك والإيرانيين واللبنانيين جاؤوا الى الحكم بفضل الإنتخابات؛ ولكن في بلاد غير ديموقراطية، مثل ايران، حيث يدور صراع بين الاجنحة الاصولية و”الاصلاحية”؛ أو في ديموقراطية متراجعة مثل تركيا، حيث الرد على الفساد هو بالاجتثاث والقمع المتصاعد ضد حرية الرأي؛ أو ديموقراطية طائفية، وفوق ذلك مشلولة مثل لبنان، حيث الفراغَين، الرئاسي والتشريعي، حيث لا يمكن إصدار قانون ولا تنفيذ المنصوص منه… فتكون الحرب على الفساد مباراة في ملء الفراغ السياسي.

في هذا الصراع داخل السلطات نفسها، لا يوجد خيارات عديدة لمباشرة آليته. لا أحد يعرف خواتيمه، وإن رجحّ غيابه التدريجي عن الشاشة؛ ولكن من الواضح ان الفساد فيه صار مورداً سياسياً جيداً في معركة أي “كبير” ضد شريكه في الحكم. لذلك فمن اليوم وحتى يهدأ غبار هذه المعارك، وتستقر السلطة على احد أجنحتها، ستبقى راية محاربة الفساد مرفوعة، معها، أو بعدها، راية الردّ عليها بحملة قمع أو فساد اخرى، تكون أشبعت هواءنا وصودرنا بالسواد الخانق.

سالفة بسيطة تبيّن الفارق: عندما بلغت الرئيس الفرنسي فرنسوا اولاند شائعات عن تكتّم وزير المالية جيروم كاهوزاك، على مبلغ من المال، أقل من مليون دولار، خبأه في سويسرا، نظر الرئيس في عين الوزير، وسأله “هل هي صحيحة هذه الاخبار يا جيروم؟”، فانتفض الوزير وأمعن في النظر هو الآخر في عين الرئيس وقال” أبداً! هذا كذب وافتراء!”. بعد ذلك بأشهر سرّب إحد المواقع الالكترونية وثائق تؤكد الشائعة؛ فلم يتردّد الرئيس ثانية واحدة  ليقيله، ليطرده من نعيم السلطة. وقد اعتبر الرئيس ان الوزير أهانه شخصياً، بكذبه عليه..
انها ليست الجمهورية المثالية بالتأكيد، ولكنها أقرب الى الإنسانية من بهلونيات محاربة الفساد التي صارت جزءاً من التلوث السمعي البصري والسياسي.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/e7d2a5c5-242b-4393-9dd5-52eadddd8b84#sthash.cL2qzzUf.dpuf

السابق
ثمانية قتلى في عملية انتحارية لـ«داعش» في ريف حمص
التالي
17 قتيلاً على الاقل بهجوم انتحاري استهدف موكب زوار شمال بغداد