الفشل المسيحي والتساؤلات المصيرية

6 كانون الأول 2014في أزمنة القلق الوجودي تظهر تساؤلات خطيرة منها ما هو ناتج تفكير في مسار ومنها ما هو وليد لحظة تشتدّ فيها أزمات ضاغطة على سيكولوجيا الأفراد والجماعات.

من أبرز وأعقد مسببات التساؤل في العقل وفي الوجدان الفشل خصوصاً متى كان فشلاً جماعياً يسوّغه أصحابه بـِ”القدر المسمّى”.
الإستسلام لهذا “القدر المسمّى” هو الفشل المؤكّد في ذاته. هو الذي يلغي الدوافع أو المحفّزات ويعدم الطاقة أو الحيوية خصوصاً الفكرية وتحديداً حيوية الإبداع. هو الذي يغيّب التصوّرأو الرؤيا الإستراتيجية المصحوبة بالتوقّع أو المعرفة الإستباقية. هو الذي يبعد عن الإلتزام أو الشعور بالمسؤولية إزاء قضيّة ما. هو الذي يقعد عن الفعل أو النفس النضالي مشفوعاً بالمرونة والصبر والمهارة واللباقة في التصرّف.
الجماعة المسيحية في لبنان هي اليوم أمام تساؤلات مصيرية مبعثها فشل القيادة بمواقعها ومرجعياتها ومستوياتها كافة في إدارة الإستجابة للتحدّيات التي واجهتها أقلّه منذ أواخر ستينات القرن الماضي حتى اليوم.
من يراجع أوراق تلك المرحلة امتداداً حتى اليوم ويستحضر بعضاً من مشاهدها يجد أنّ الإستجابات كانت تتهاوى الواحدة منها تلو الأخرى. فلقد حمّل هؤلاء أنفسهم (والأصحّ هو أنّهم حُمّلوا) ما لا مكنة لهم على حمله (من التصدّي لليسار الدولي وللعروبة والقومية العربية وللدولة اللبنانية العميقة أو الشهابية إلى السنّية السياسية وحليفها الفلسطيني إلى الشيعية السياسية وحليفها السوري حتى زمن الإنشطار التحاقاً بين الإثنتين… فضلاً عن السعي إلى تحالفات الوهم مع أمبراطوريات الوهم الدولي والإقليمي).
تلك الأوراق والمشاهد فيها من دروس التاريخ الخاص والعام والسياسة والقيادة والخطأ والصواب ما هو نافع بالتأكيد لمن يجيد القراءة بالعين البصيرة والعقل النقدي، تحدوه الرغبة في التعلّم والإستدراك والمحاذرة والتفهّم الواضح لمصلحة الجماعة فيعي تماماً القدرة الحقيقية للذات بدون مكابرة، ويبدي تفهّماً أعمق لسياسات الدول وتبدّل مواقعها بتبدّل مصالحها ويبني سياساته على تحاليل إستراتيجية تعتمد المقاربات السوسيو- ثقافية والجيو – سياسية. هذه المقاربات هي المعتمدة اليوم في علم الإستجابة للتحديات وعلم الخروج من الأزمات المصيرية.
إنّ تغييب المناهج العلمية في فهم الوقائع والتعامي عنها برفع الشعارات العاطفية يقود حتماً إلى الفشل الذي لا تعوّضه نزعة التعالي والتشاوف للتغطية على عدم الإعتراف بنقص الأهلية القيادية فعدم الكفاية والفاعلية في المشهد السياسي الراهن واستحقاقاته مؤشّر واضح إلى نهاية “المسيحية المدرسية” أو “التقليدية”، مسيحية “الشعارات الثابتة”.
الشعارات لا تصمد أمام الوقائع. ما يحصل في المنطقة أصاب الجماعة المسيحية بالهلع ووضعها أمام تحدٍّ وجودي لم تعرفه من قبل. كيف استجابت “قياداتهاً لهذا التحدّي؟
ما نقرأه في هذه الـ”كيف” مخيف ومرعب. تسويغ وطمأنة غير مسندة أو مقرونة بفعل نافع أو تحليل علمي. فيض من حقد ودفع للملامة عن الذات في اتجاه الآخر.
الإستجابة الأولى تبسيطية يتقنها من لديه رغبة في التغطية على فشل خياره. والإستجابة الثانية تنزيهية يتقنها من لديه شغف بمنح الذات صكّ براءة يثبت مدى تعنّتها وتشبّثها بالمكان الخطأ الذي هي فيه.
كلتا الإستجابتين تدلاّن على عمق الإختلالات في منظومة التفكير والقيم وهي اختلالات مدمّرة للجماعة. مصدرها عدم الإعتراف بالهزيمة مصحوباً بالحقد الذي هو أسوأ موجّه للعمل السياسي إذ يوهم صاحبه بأنّه “سلطان رأي” لا يخطئ ولايردّ.
سادت في “المسيحية التقليدية” فكرة التوجّس من الذوبان في المحيط الأكثري ما أسفر عن قصور في الدور وفي الهوية ومع الأزمنة الصعبة ازدادت هذه الفكرة رسوخاً حتى إنكار الدور والهويّة فحاولت “قيادات” الجماعة الإختباء تحت غطاء مصنوع من تحالفات اللحظة.
الإنكشاف الحقيقي “للقيادات” تبدّى في الإستحقاق الرئاسي. فاجتماعات بكركي كانت أقرب إلى الإستثناء منها إلى القاعدة بالرغم من أنّ صاحب الصرح أرادها أن تكون بخلاف ذلك. أراد أن يعيد للرئاسة اعتبارها السياسي فما أفلح لأنّ اقتضاء المصالح الخاصّة أخفى الأهداف الحقيقية لكلّ “طامع”. والكلّ ينفي أيّة مسؤولية دستورية أو أخلاقية له عن فشل التجربة التي تعلّم أنّ إعادة إنتاج التفوّق لدى الجماعة باتت من مستحيلات المرحلة.
المنهج التلفيقي يقصي التجارب عن التراكم التاريخي (بمعنى التنامي الحتمي المدفوع بحركته الذاتية بصورة آلية أو عضوية) ويفضي بصاحبه إلى التخبّط والعشوائية ويفقده مرجعياته الأصلية. وهذا هو حال الجماعة اليوم بكلّ تجلياته الثقافية والسياسية فتغيّرت بموجبه صورتها انتكاساً وتشوّهاً أصاب عقلها وفعلها التنويري فأمست بلا أصل وتاريخ.
من المسؤول عن هذه القطيعة النهائية المنشئة للفراغ المؤدّي في إحدى نتائجه القصوى إلى رمي الجماعة في الشتات (دياسبورا) والبحث عن “المأوى البديل”؟
الجماعة هنا أمام إخفاق ذريع فلا تجرؤ على الإجابة عن هذا السؤال الخطير لشعورها بعدم القدرة على المحاسبة إن هي حدّدت من المسؤول. من أبرز علامات الفشل الجماعي في علم النفس السلوكي العجز عن مواجهة من يقود الجماعة بالنقد والمحاسبة. قد تبدو هذه الحقيقة منطوية على تناقض حاد يعبّر عنه بالسؤال الآتي: كيف يمكن لجماعة مكوّنة من مجاميع عائلية ومذهبية ومحلّية ومصلحية أن تجتمع في محكمة الرأي العام لإصدار أحكام الإعدام السياسي على “قيادات” هي من صنفها؟!
قد تشعر الجماعة يوماً بالذنب والندم… وربّما بالغضب المشتهى بداية لوعي واستدراك وثورة.

http://newspaper.annahar.com/article/195631

السابق
اهالي العسكريين المخطوفين قطعوا طريق المرفأ البحرية بالاتجاهين
التالي
الشيرازيون و«طقسنة» التشيّع