رحلة في الوجدان الإيراني: أصفهان بيت السر

مصطفى اللباد

لا تشبه مدينة أصفهان غيرها من المدن الإيرانية؛ إذ هي خزنة ومستودع الوجدان الإيراني الحافل بمستويات المعاني. زالت سطوة أصفهان السياسية، فلم تعد عاصمة إيران منذ ثلاثة قرون مضت. تتفوق طهران على أصفهان سياسياً وتسبقها تبريز تجارياً، وتبزها شيراز شعرياً، وتغلبها مشهد وقم دينياً. سكان أصفهان ليسوا الأكثر عدداً مقارنة بغيرها من المدن الإيرانية، ونخبتها لا تميزها في المحافل والمنتديات إلا من لكنتها الحادة التي لا تخطئها أذنك، وليس بلون فكري مخصوص. ومع ذلك، لم تترك مدينة إيرانية طابعها وروحها على الوجدان الإيراني، مثلما فعلت وتفعل أصفهان. مَثل أصفهان بين المدن الإيرانية مثل عمارة البيوت الإيرانية القديمة، التي تفصل بين الداخل (الأندرون) العابق بالأسرار والحرمات، والخارج (البيرون) القشري الظاهري، الذي يُستقبل فيه الزوار. عليك أن تمضي بتدرج وسلاسة في تلك الردهات الطويلة الفاصلة بين الداخل والخارج، بين الظاهر والباطن، لتنفذ في النهاية إلى بيت السر والقصيد. لا يشترط أن تكون متضلعاً في التأويل العرفاني لتصل إلى اكتشافك، إذ يشي بأصفهان ومكانتها الاستثنائية في الوجدان الإيراني ثلاثة مكونات: التاريخ والرموز والعمارة، حيث يحل الأول متجسداً في الثانية والثالثة على نحو فريد، قبل أن يختلط ثلاثتهم معاً حتى تحسبهم شيئاً واحداً.

الصراع الرمزي بين الشمس والقمر
أصفهان هي تلك الحاضرة الكبيرة الواقعة في وسط الجغرافيا الإيرانية بين مدينتي طهران وشيراز، والحاوية لآثار الدولة الصفوية التي حكمت إيران منذ مطلع القرن السادس عشر وحتى الثلث الأول من القرن الثامن عشر، فأطلقوا عليها «لسان الزمان وبهجة المكان». ويكشف اختيار أصفهان عاصمة للصفويين طريقة ما زالت تحكم التفكير الإيراني حتى اليوم، أي محاولة الجمع بين مزايا عدة في مسألة واحدة. يعود السبب في اختيار الصفويين أصفهان عاصمة لملكهم بدلاً من مدينة قزوين التي بدأوا بها كعاصمة، إلى مجموعة من الأسباب، أولها أن أصفهان تبعد جغرافياً عن الإمبراطورية العثمانية مقارنة بقزوين، كما أن أصفهان تقع في حضن الجبل بحيث يصعب غزوها، وأخيراً لأن أصفهان تقع على طريق القوافل التجارية إلى الهند. لم يكتف الصفويون آنذاك بتغيير العاصمة فقط، بل ذهب خيالهم إلى أبعد من ذلك بكثير حتى وصل إلى رمزية العلم الإيراني وتصميمه المميز. هنا يتشابك التاريخ مع الرمزية البصرية المستبطنة لمعانٍ تتجاوز الصورة، فعندما جاء الشاه عباس الكبير الصفوي إلى حكم إيران وانتقلت عاصمة الملك إلى أصفهان؛ فقد أعاد الاعتبار إلى العلم الإيراني، فاختار الشمس والأسد مرة أخرى رمزاً لدولته. يتناغم الرمزان مع وجدان الإيرانيين الجمعي؛ حيث الشمس وفقا لمعتقدات الإيرانيين القدماء هي حلقة الاتصال بين الإله والكائنات، مثلما يعد الأسد علامة لانتصار الحياة على الموت، ولانتصار فصل الربيع على فصل الشتاء. هكذا نرى ملوك الأساطير الإيرانية في «الشاهنامه» – ملحمة فردوسي الأشهر – قد صمموا أعلامهم بالشمس والأسد الذي يمسك بيده سيفاً. ويرتبط هذان الرمزان (الشمس والأسد) بمدينة أصفهان ارتباطاً خاصاً حتى اليوم؛ وهو ما تجده منقوشاً بوضوح على الصنائع اليدوية الأصفهانية وعلى سجاد أصفهان الرقيق الحياكة والغالي الثمن. ومثلما كان إعلان التشيع مذهباً رسمياً لإيران، وانتقالها من مذهب السنة إلى مذهب الشيعة بقرار من الشاه الصفوي العام 1501، مستهدفاً تكريس التناقض مع الإمبراطورية العثمانية، فقد كان اختيار الشمس رمزاً للعلم الفارسي راجعاً إلى هدف سياسي عميق مفاده إدامة الصراع بالرموز بين الشمس الصفوية والقمر الذي زيّن علم الدولة العثمانية!
الشيخ لطف الله والشاه عباس
تسافر بالطائرة لمدة ساعة من العاصمة طهران قبل أن تهبط في مطار أصفهان المتقشف نسبياً، فتذكر نفسك أن ظاهر الأمور لا يعكس باطنها بالضرورة. تترك المعاني التاريخية – السياسية – الرمزية خلفك، وتبدأ جولتك في المدينة متنقلاً بين عمارتها. تقف وحيداً في ساحة «نقش جهان» (خريطة العالم) المعلم المعماري والتاريخي المجمع، متجرداً من أحكامك المسبقة. تجد الساحة مثل فناء مستطيل الشكل يتوسطه حوض ماء ضخم، تحيط به أبنية أصفهان التاريخية مثل مسجد الشيخ لطف الله وقصر «عالي قابو». تبدأ من عند الشيخ لطف الله، المتحدر من جبل عامل في لبنان، والذي هاجر من قريته ميس الجنوبية إلى خراسان في شمال إيران على عهد الشاه عباس الصفوي لتوطيد أركان المذهب الشيعي في إيران. يعد مسجد الشيخ لطف الله تحفة فنية فريدة؛ فاللون العاجي الذي يكسو قبته يخطف قلبك، بعد أن تختم عليه تلك الخطوط الجميلة التي كتبت بها الآيات القرآنية المزينة على جدرانه. وبرغم مرور أكثر من ثلاثمئة وخمسين سنة على بناء الجامع؛ فإن ألوانه الزاهية لم تزل على حالها بهجة للناظرين. تثني بقصر «عالي قابو»، الذي يتألف من ستة طوابق متمركزة على ثمانية عشر عموداً خشبياً منحوتاً بفن وذوق رفيع، وتتوسطه نافورة رائعة. ماؤها في ذلك الزمان من ماء الورد. تتبين، في تجسيد عملي للتناقض بين الظاهر والباطن، أن غرف القصر الداخلية أكثر روعة وبهاء من مظهره الخارجي، حيث تلاحظ الجدران وقد طُليت بماء الذهب ورُسمت عليها المنمنمات بأشكال الزهور. ويصدمك ذلك التناقض أكثر عند اكتشافك أن قصر «عالي قابو» يبدو من الخارج وكأنه مكون من طابقين، إلا أنه يحتوي على سبعة طوابق في الواقع. تقع صالة الموسيقى في الدور الأخير من القصر، وهي مصممة بشكل لا يبارى حين تختزن صدى الصوت بطريقة فريدة. ويعتقد بعض الإيرانيين أن الموسيقيين كانوا يدخلون إلى غرفة الموسيقى؛ فيعزفون مقطوعاتهم ثم يغلقون الباب من خلفهم. وعندما يأتي الشاه عباس ويجلس في الصالة، فإن صدى الصوت يعيد الأنغام التي عزفها الموسيقيون، ليستمتع بها في وقت لاحق مع صحبته. تقتفي أثر الموسيقى الإيرانية وتثلث بزيارة قصر «هشت بهشت» (الجنات الثماني)، ذلك الواقع بالقرب من طريق «جهار باغ» في مقابل طريق «شيخ بهائي». شيد القصر بالقرن السادس عشر الميلادي، وعلى جدرانه تنتصب رسومات لموسيقيات إيرانيات حسان، بألوان ملابسهن الزاهية وهن يعزفن على الآلات الموسيقية الإيرانية التقليدية. وفي اليوم التالي، تنتقل إلى قصر «جهل ستون» (قصر الأعمدة الأربعين)، المكون في الحقيقة من عشرين عموداً، ولكنها تنعكس على صفحة المياه مقابل القصر فيخال الناظر عددها أربعين وهي ليست كذلك.
النهر والجسور
تنتشر الجسور في أصفهان على نهر «زاينده رود»، وتمتاز بخصوصية معينة في التصميم، بحيث تتضمن غرفاً في داخلها لا يمكن رؤيتها من الخارج. هناك استراح المتنزهون، الذين كانوا يقضون نهاراتهم في الأيام الخوالي، قبل هجمة الحداثة والعقوبات الاقتصادية، في الغناء والصبابة وتناول الفاكهة. في جسور أصفهان تمتزج الحياة المفعمة بالمباهج المتقشفة مع الموت، فعلى أحد جسورها، جسر شهرستان، تم اغتيال الخليفة العباسي الرشيد بالله العام 1138 ميلادية. يشتهر جسر «سي وسه بل» (جسر الثلاثة وثلاثين قوساً) بوجود غرفة لتقديم الشاي بين الأقواس، في المقابل، تؤدي في جسر «بل خواجو» درجات متعرجة مخفية عن العيون المتعجلة إلى الطابق الثاني، حيث يجتمع المتنزهون والعشاق والمغنون. تجلس على المقاعد الحجرية العتيقة والنظيفة بالقرب من مغنّ في نهاية الخمسينيات من عمره، فيبادر مرحباً بك وسائلاً عن بلدك. يغني لك بعدها بعض فقرات من «أطلال» أم كلثوم، ويخبرك بأن نهر «زاينده رود»، سمي النهر الخالد قبل عقود تيمناً بأغنية عبد الوهاب عن النيل. وفيما أطلق المصريون على بلدهم «أم الدنيا»، فقد كان سكان أصفهان أكثر تواضعاً فأطلقوا عليها «نصف جهان»، أي نصف الدنيا. تطلب من المغني أداء أغنية إيرانية يقول مطلعها: «عزيز بيش بكنارم»، فتلحظ فتاة إيرانية بارعة الجمال، تجلس في وقار على المقعد الحجري المقابل، وهي تكمل الأغنية التي طلبت بصوت خفيض: «بخدا دوست مدارم».
تنهض من جلستك بعد تحققك من اكتشافك بيت السر الأصفهاني، فتلملم أوراقك وتحزم أمتعتك للسفر إلى طهران ومنها إلى القاهرة، مستذكراً قول القطب الصوفي عطاء الله السكندري لنفسك ولأصفهان: «ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع.. صار المنع عين العطاء». تجلس في السيارة متوجهاً إلى المطار وعيناك تتجولان في شوارع المدينة مودعاً: خدا حافظ … أصفهان!

http://assafir.com/Article/18/387183

السابق
 نصر الله استقبل المالكي وقدّر شجاعته ضد أميركا
التالي
الحوار يبدأ من الرئاسة إلى رزمة متكاملة ما بعد حديث الحريري