نحن القتلى من دون أسماء

الشريط الأخير لـ”داعش”، ذو الوحي الهوليودي مرة أخرى، حيث يذبح ثمانية عشر “من النظام السوري”، وعامل إغاثة اميركي، لا يخرج عن تقليد عربي عريق في معاملة أسماء الضحايا. تقليد مبني برسوخ على التمييز بين الأسماء: في حين يبرز إسم الضحية الأميركي، بيتر كاسيغ (عبد الرحمن، بعدما اعتنق الاسلام)، على نحو يدفع الرئيس الاميركي الى ذكره؛ وفي حين تعود وكالات الأنباء الغربية فتذكر اسمه مرفقا بالأسماء الثلاثة التي سبقته من اميركيَين وبريطاني واحد: جيمس فولي، ستيفن سوتلوف، ألن هينينغ، قضوا جميعهم ذبحا على يد “داعش”… في هذا الحين، الضحايا الثماني عشر من “النظام السوري”، لا نعرف شيئاً عنهم سوى وجوههم المنحنية المخدّرة؛ لا أسماءهم ولا حقيقة جريمتهم، اذ قيل، أيضاً، انهم مواطنون عاديون؛ لن نرى وجوه أمهاتهم على الشاشة، ولا آباءهم، ولا مراسم تعزيتهم ولو بكلمة واحدة، إعلامية.

يذكر هذا المشهد بإسم جندي اسرائيلي حفظناه عن ظهر قلب منذ سنوات، وبقي محفوراً: جلعاد شاليط، الجندي الاسرائيلي الذي خطفته مجموعة من الفصائل الفلسطينية في غزة عام 2006،  في احدى حروبها، ولم تسلمه إلا بعد عملية تفاوضية طويلة قادت الى إطلاق سراح عدد لا نذكره من الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية؛ لا نذكر عددهم، ولا بطبيعة الحال وجوههم أو أسماءهم. أما جلعاد شاليط، فصار له 332000 رابط على غوغل، وله “سيرة” على موقع ويكيبيديا، تسرد اصوله الفرنسية وحياته، فضلا عن الصور التي حفرت وقتها في ذهننا، واسمه الذي لم ننساه.

ما العلاقة بين شاليط وبيتر كاسيغ، أو جيمس فولي؟ هي العلاقة نفسها بينهم وبين المجهولين أبناء المنطقة الذين قضوا قتلا، في حروبنا. ففي هذه الواقعة، تكون الهوة شاسعة بين نوعين من الضحايا: الضحايا السوبر، إسرائيليون كانوا، أم غربيين، والضحايا الرثة، “التيرسو”. الأولون لهم أسماء ووجوه وأهل، وأمهات يبعثن بالرسائل ويناشدن الاعلام، تبكي الأرض كلها على مأساتهن؛ فيما الآخرون، الصنف الثاني من الضحايا، فلا شيء غير رقمهم. الرقم وحده يشير إليهم، وهو دائما الأعلى. أما إذا جلتَ بنظرك نحو أبعد من ذلك بقليل، بالموت بحق هذا الصنف من البشر، الجماعي، التجاري، فلن تعرف وسط كل هذه الأكوام من الجثث إسما واحداً، إلا إذا كنتَ ممن تتبعوا اخبار واحد منهم، ونجحت بعد وساطات، في معرفة ظروف إختفائه ومقتله.

ذلك هو القانون. الحروب التي نشأنا عليها، وعلى اختلاف أطرافها ومراحلها وأنماطها، كلها كانت ذات وجهة واحدة: سواء كانت مع إسرائيل أو اميركا أو المليشيات أو صدام أو بشار، أو “داعش” الآن… كان ضحاياها من أهل المنطقة مجهولو الهوية معروفو الرقم، تقريباً… فيما الضحايا الأجانب، ومعهم أصحاب الامتيازات والشهرة بيننا، تنتشر أسماؤهم وتسود صورهم، ولفترة من الزمن، لكي نتذكرهم جيدا.

يجيبك أصحاب الإهتمام بهذا الشأن بأن العدد الهائل من الضحايا لا يسمح بوضع اسمائهم وصورهم، وبالتالي في حفظها. انهم بمثابة جنود مجهولين، تصحّ عليهم الصلاة الجماعية ويعوَّض عن مجهوليتهم بكونهم شهداء. ولكن، المشكلة تقع تحديداً في هذه الزاوية من النظر: التسليم الضمني بالعدد المرتفع من القتلى بيننا، بصفته قدراً. من هذا التسليم يأتي التجهيل البديهي. إذ كيف لنا أن نغطي أسماء عشرات الآلاف من القتلى ونحفظ وجوههم؟ فالمشكلة ليست في عدم تغطية الأسماء، انما في استحالة حفظها وتسجيلها. والاعلام الغربي اعتاد على هذا التسليم. تركيزه على الاسماء الأميركية أو البريطانية هو بدوره مثل القول الضمني ان عدد الضحايا من اهل المنطقة من البديهيات، وموتهم بالتالي لا يهم إلا بأرقامه. وهذه حقيقة استوطنت في دواخلنا نحن أيضا، وبتنا لا نكترث بالثمانية عشر مذبوحاً، ولا بالعشرين جندياً لبنانياً المهددين بالذبح، اهلهم وحدهم يهتمون.

فاهلا بكم في البلاد السائبة، بلاد القتلى بلا اسماء. قد يأتي أحدهم على هامش خبر مقتل أجنبي، فيرتفع شأنه قليلا بعد رحيله عن هذه الدنيا.

 http://www.almodon.com/opinion/86fe95ef-6b57-4f1c-8537-657224235966

السابق
مبنى الصيادين في صور إلى الواجهة مجدداً
التالي
«المحكمة الخاصة»: روايات واتهامات سياسية وجنائية