فضيحة برسم الكساد

أنعمَ علينا الدهر بفضيحة مجلجلة، كشفها وزير الصحة، وآيتها مقرفة، تقول بوضوح ان اللبنانيين كانوا، قبلها، يتتناولون مع لحوم الدجاج والبقر، برازاً وعفناً. حتى هذه النقطة، لا يمكننا غير إلقاء التحية على الوزير المقدام النشيط؛ ولا نفهم اعتراض نظرائه، من وزراء ونواب و”فعاليات”، الا من باب الأضرار التي تلحقها الفضيحة بمصالحهم ومصالح محمياتهم. فالفساد في لبنان لا يحتاج الى مختبرات وتحاليل وما شابه من فحوص؛ الفساد تراه بالعين المجردة، وكشف فضيحة اللحوم الفاسدة ليس سوى نقطة في بحره، يستحق كل كاشف عنه التحية الطيبة.

ولكن، على الوقع نفسه، على وتيرة اللوائح والمشاهد المتلاحقة الخاصة بهذه الفضيحة، لا يمكننا أيضاً غير طرح جملة من التساؤلات، تفرض نفسها، رغم صخب الفضيحة الاعلامي، أو ربما بسببه:

أين أصبحت فضيحة، أقل منها ضجيجاً، كان الوزير نفسه أعلن عنها قبل أقل من شهرين، حول المستشفيات التي تسجل على الضمان الاجتماعي أسماء مرضى وهميين أو متوفين؟ وهل كانت تقتصر فضائح المستشفيات على هذا الوجه الوحيد من فسادها؟

لماذا لم ينسق الوزير مسبقاً مع الوزراء المعنيين بهذه الفضيحة؟ تسهيلا لمترتباتها؟ أو على الأقل، وبما ان “التغطية” العليا متوفرة، لماذا لم ينسق مع وزير الزراعة، زميله في الحزب نفسه، والذي يتمتع بحماية التغطية العليا ذاتها؟ خصوصاً ان هذا الزعيم كان قد أعلن بموازاة إنكشاف اللحمة الفاسدة، ان المياه التي تروي خضارنا وفاكهاتنا، هي مياه آسنة؟

لماذا يتصرف الوزير كما لو كان لا يعرف طبيعة النظام الذي يلعب في ميدانه؟ كما لو كان مصدقا نفسه شخصية دونكيشوتية، بريئة من الظنون، لا تتوسل إلا صفاء روحها وبسالتها؟ ينظر الى العدسة مجيباً على استفزازات زملائه بعيون البراءة، وهو يقول ان كل ما يفعله إنما ما باب “الواجب الوطني”؟ مثل أولئك الوزراء الذين سعوا بعرق جبينهم ليصلوا إلى ما هم عليه، اجتازوا كل الاختبارات الطائفية الفاسدة، ثم بعد ذلك “استيقظوا” على طبيعة هذا النظام الذي يمكن لطفل يحبو ان يفهم آليته، فيصرخون نفورهم منه، من طائفيته وفساده، فيستقيلون، ليعيشوا بعد ذلك في وفرة لقب “وزير سابق ثوري”؟

كيف ستنتهي فصول هذه الفضيحة؟ هل في حوزة الوزير خطة، أو مشروع أو مقترحات يقوم بموجب واحد منهم باجتثاث الفساد في جزء صغير جدا من جدار طعامنا وصحتنا؟ هل سيشرع لقوانين تحمينا من سارقي جيوبنا وحياتنا؟ أم ان نظراءه الوزراء سوف يواجهونه بأولويات فضائح أخرى، منها التمديد للبرلمان والإتصالات ومناقصات الخلوي… بحيث يكون لكل كتلة في مجلس الوزراء فضيحتها التي تحميها بدموع العين؟ أم ان مشهد النهاية ما لبث ان أطلّ أمس، عندما أُعلن عن تشكيل “لجنة وزراية” لدراسة حيثيات الفضيحة، أي لدفنها، بشروط لن نعرفها؟ ليتحول العمل البرلماني والوزاري الى نوع من انواع النشاطات الإعلامية…؟ فتكون سمة عهد التمديد مهرجانات فضائح متناسلة، لا يجدر غير التكلم عنها فوق السطوح.

ولكن، أيضا، لـ”التغطية” السياسية التي منحها الزعيم الأعلى لهذا الوزير، مرجعه وقائده، أي بمعنى آخر، انه أعطاه إشارة البدء بكشف فضيحة الفساد. لماذا هذه “التغطية”؟

هل تعني بأنه قبل ذلك، لم يكن هناك مجال لها؟ أو حجة؟ أو سياق؟ في بلاد الفاسد المزمن؟ ماذا يعني ان تأتي التغطية الآن؟ الآن فقط؟ ما هو الشيء الذي سوف يغطيه بدخانها، وعندما ينتهي زمانه، بسحب الزعيم التغطية؟  ثم ان لماذا لا يعطي اشارة البدء لوزيره الآخر؟

أم انها، “التغطية”، صارت نمطا من أنماط العمل الحكومي، في ظل الفراغ المديد، قانونا يُحتكم اليه، بحيث تكون رؤية زعيم كل كتلة هي الحاكمة لمسار صراعات الكتل كلها؟ لا برلمان ولا رئيس ولا انتخابات ولا قوانين…؟ بحيث تتجدد زعامة الزعيم بمجرد اللعب بالهواء وبيعه، بانتظار… “الظروف الإقليمية التي سوف تعيد لبنان الى سكته الديموقراطية الصحيحة”؟

في هذه  الأثناء، أضيف الى أرشيف فضائحنا الكاسد، ملف دسم سوف تكسوه الغبار بعد حين. وبقي لنا مسرحية مؤلمة مسلية، عما يقتلنا بالقوة “الناعمة”، من لحوم وهواء وعمار وطمريات، مسرحيات  تملىء الفراغ الميت بفراغ ديناميكي… بعض القليلي الحظ سوف يعاقبون، إذ تكون الحقيقة قد وقعت عليهم بالقرعة، ثم تتبخّر الفضيحة: لم نرَ، لم نقلْ، لم نسمعْ… فالإفراط في الفضائح يقتل الفضيحة.
http://www.almodon.com/opinion/0579489f-9fb0-4943-a6ab-d801035a443a

السابق
السياحة الشتوية في اقليم كوردستان-العراق.. بعيداً عن كوباني
التالي
روسيا تعتزم إطلاق نسخة بديلة عن «ويكيبيديا»