رأسك أخي .. لا ترتخي: عن تطبير عاشوراء

التطبير
فتحت الفيديو، وإذ بمشهد يبدأ بـ”عباس” مصوّراً نفسه يركض مع جموع غفيرة في جوّ هرج ومرج، ممسكاً هاتفه الخليوي في يد، لاطماً على رأسه بالأخرى، صائحاً بصوت غير مسموع من شدّة الضّجيج، يحصل تدافع له مع الراكضين، يتوقف قليلاً، يعاود الركض، مستميتاً على تصوير نفسه وسط الهرج، يتوقف مرّة أخرى لاهثاً، ثم يعاود الركض، لينتهي الفيديو بسقوط هاتف عباس أرضاً (مع صوت سباب بالعراقي)، وسقوطي أنا على أرض المكتب لدقائق منقلباً على ظهري من الضّحك!

أحياناً، أفكر ببعض المقربين مني ممن “أنعم” عليهم الله بعقل محدود، فيعتريني شعور غريب تجاههم، هو مزيج متناقض من الشّفقة والحسد!

لقد وعدت عباس ألا أكتب عنه شيئاً (خصوصاً بعد مقالي الأخير)، لكن حجم الإغراء الدائم الذي يمارسه عليّ بـ (فنعاته الدينيّة المستجدّة)، يجعلني أجد صعوبة في التحكم بنفسي والامتناع عن تأريخ إبداعه المستمر، حفاظاً على تراثه (السايكو – كوميدي) العظيم لدراسته فيما بعد !

اليوم، أستغل وجوده بالعراق للزيارة، لأرفع قلمي وأكتب عمّا وضعه على الفايس بوك ، وجعلني أضحك إلى حدّ البكاء !

منذ قليل، ولعدم وجود عمل مستجدّ في المكتب، تفقدت صفحة عباس ، لأجدها ازدادت اتّشاحاً بالسواد (فوق ما هي سودة)، وزيّنت بشعارات كثيرة لمناسبة عاشوراء، مع صلوات على محمد وآل محمد، وسباب كثير ليزيد والشمر ومن لفّ لفهم (تماما كما توقعت).

كان الجديد في صفحته هذه المرّة هو مقطع فيديو يحمل اسم (انا في ركضة “طويرج”)، أغراني بفتحه بعد رؤيتي لمنظره وهو فاتحا فمه بخلفية الصورة وكأنه يصرخ بشيء ما ، فيما يده اليسرى فوق رأسه، واليمنى مختفية، نظراً إلى أنها ممسكة بالهاتف من وضع سيلفي!

فتحت الفيديو، وإذ بمشهد يبدأ بـ”عباس” مصوّراً نفسه يركض مع جموع غفيرة في جوّ هرج ومرج، ممسكاً هاتفه الخليوي في يد، لاطماً على رأسه بالأخرى، صائحاً بصوت غير مسموع من شدّة الضّجيج، يحصل تدافع له مع الراكضين، يتوقف قليلاً، يعاود الركض، مستميتاً على تصوير نفسه وسط الهرج، يتوقف مرّة أخرى لاهثاً، ثم يعاود الركض، لينتهي الفيديو بسقوط هاتف عباس أرضاً (مع صوت سباب بالعراقي)، وسقوطي أنا على أرض المكتب لدقائق منقلباً على ظهري من الضّحك!

الجديد في المشهد ليس لطم عباس، فعباس يلطم دائماً حتى في الأفراح، واستجلاب الحزن هي وسيلته الوحيده للتّعبير عن أي مشاعر تختلجه، الجديد هنا هو ركضه لاطماً بهذا الشكل الغريب، وإصراره على تصوير نفسه !

أثار إستغرابي التعليقات الموجودة أسفل الفيديو الّتي أثنت بمجملها على ما يفعله “عباس”، مؤازرةً إياه بعبارات الحسد والتبجيل و(ياليتنا كنّا معكم) مع تمنيات بصعود الأجر إلى السماء، الأمر الذي جعلني أفيق تدريجياً من سكرة الضحك، وأدخل بحالة من القلق الوجودي، راصّاً في عقلي مجموعة من الأسئلة !

ما الّذي يفعله الأحمق هناك؟

لماذا يركض لاطماً رأسه بهذا الشّكل مصراً على تصوير نفسه؟

اسم الفيديو “في ركضة طويرج”!

“طويرج”؟

هل هي شعيرة عاشورائيّة، أم هي بدعة ابتدعها الأخوة العراقيون واستحسنوها، فصيروها شعيرة ونسبوها إلى اهل البيت كما عوّدونا دائماً!

بالعودة إلى غوغل وبعض الكتب، تبيّن لي عمق المأزق العقلي الذي يعيشه عباس والمهرولون معه في الفيديو، فهذه الركضة الّتي يتلقى عليها كثير الثناء، ليست سوى تقليد مستحدث سنّه أحد علماء النجف الذين عاشوا في أوائل القرن الماضي، واسمه صالح القزويني، الذي كان يحشد في ظهيرة كلّ عاشر من محرّم أهالي وعشائر منطقة طويرج العراقيّة الّتي تبعد قرابة ال22 كلم عن كربلاء، ويحثهم على التوجه “ركضاً” نحو ضريح الحسين(ع)، على قاعدة أن الحسين(ع) كان يصرخ مطالباً بنصرته، فيتقدم القزويني الجموع، ويمتطي جواده منطلقاً نحو الضريح، فيما الجموح تهرول خلفه ركضاً على الأقدام!!!

يعني بالعربي: تخيّل شخص عم ينطلق بالحصان، وفي ناس وراه عم تركض لتلحقو، شو حيكون غميان من الضّحك وقتها!

طبعاً، وعلى الطريقة العراقية، أصبحت هذه الركضة شعيرة دينية مسلَّماً بها، واُنتج لها مجموعة من السنن والمستحبّات تعارف الجمع عليها (كأن لا يسمح لأحد ان يقود هذه الركضة “الماراتونية” ما لم يكن من سلالة القزويني!)، وأصبحت تمارس في بعض الدول المجاورة للعراق، كإيران والبحرين، حيث استقطبت الأخيرة أعداداً غفيرة من الإخوة المؤمنين بالركض، تفوق حتى ما استقطبه سباق”الفورميلا وان” قبل أشهر، وهي الآن في طريقها أيضاً لأن تصبح مسلّمة في العرف اللبناني، بعد لطمية جديدة للمنشد باسم الكربلائي تحمل اسم الركضة، وتنتشر بسرعة بين الشّباب، مهيّئةً الأرضية لدخولها إلى لبنان شيئاً فشيئاً!

قلّبت صفحة عباس للمرة الاخيرة مبتسماً بإشفاق على عباس ومن معه ، خصوصاً عندما تذكّرت أن كثيراً ممن كانوا يركضون معه اليوم، كانوا قد ركضوا هرباً من داعش بالأمس القريب عندما اجتاحت شرق العراق ببضعة مئات من المقاتلين، ونشرت رعب الالاف ، اكاد اجزم ان الركض وقتها كان اسرع !

كنت أريد أن أتوقف بمقالتي عند هذا الحدّ، لـ”أحرقص” عباس واستفزّه من جديد ، لكني وقبل إغلاق صفحته، لفت إنتباهي تعليق لصديق مشترك بيني وبينه اسمه (عبد)، يهنئه بالركض، ليردّ عليه عباس مهنّئاً بالتطبير، الأمر الذي جعلني أدخل في سكرة ضحك أخرى، قبل أن أفتح صفحة عبد لأرى إبداعاته هو الآخر!

بالصور، كان عبد يقف مع زملاء له ملطّخين بالدماء، مبتسمين للكاميرا في شيء من البلاهة، فيما بعض الموجودين في خلفية الصور كانوا قد ربطوا رأسهم بشاش طبي، ولم تكن الصّور بالعراق، بل في لبنان…

انتابني شيء من الكآبة عند انتهائي من رؤية الصور، ليس لمأساوية المشاهد، بل لأن محاولاتي ونصحي لعبد العام الماضي لم تعط أي نتيجة أمام نحيب السيد “قشاقش” ونهنهاته العراقية اللّكنة، ها هو يفاخر بضرب رأسه حتى الإدماء قربةً إلى لله تعالى، مصرّاً على اتخاذ الغباء مبدأً، على قاعدة “أنا حمار إذاً أنا موجود”.

بالأمس القريب، عندما كنت أجادل بهذا الموضوع، قفز لي أحدهم وصاح بأنني لن أبلغ من العلم ربع ما بلغه “قشاقش”، فأجبته بأن القضية ليست قضية علم، بل قضية تفكير مسلكي ونتاج أبستومولوجي، ولكن حتى إن تكلمنا عن العلم، فأن أن كلّ من يبيح التطبير يعلم في قراره نفسه أن التطبير*، هو عادة دخيلة على الإسلام الشيعي عمرها أقل من 400 سنة، أخذها مسلمو الهند تأثراً ببعض الطقوس الهندوسية القائمة على جلد الذات وتعذيبها، وقد نقلها الصفويون إلى إيران، وزادوا عليها عادة ضرب الرأس وشقه من أرثوذوكس القوقاس (خاصة الأذر منهم)… لذا وباختصار، كل من يبيح هذه العادة، يعلم هذه الحقائق لكنه يصرعلى القفز فوقها! تطبير..

كان هذا جوابي فما كان منه الا ان بدأ يتهمني بأني ماركسي وان ثقافتي بعيدة عن ثقافته وانني لن افهم روحية التطبير والخ.

المضحك أنه عندما نتمعّن في عادات بعض الشعوب والحضارات، كالمايا والأزتك، نجد أن تراثها الحضاري بمجمله قائم على عمق معرفي ومقاربات ميتافيزيقيّة ومحاكاة للطبيعة، لكن عندما ننظر الى اغلب عاداتنا وطقوسنا نجدها جوفاء قائمة على التقليد الأعمى الأطرش الأبكم – الأهبل!

على كل حال، هنيئاً لعباس ركضته، ولعبد رأسه المضروب من الداخل والخارج، وهنيئاً لي بهذا القدر من الضّحك- يقولون إن الضحك يطيل العمر، أتمنى أن لا يقفز إليّ أحدهم رافعاً سيف جهله ليتّهمني بأنني هاجمت مقدساً، أنا أعرف عما أتكلم، وأعرف ما هو المقدس جيدا ، وبرغم ماركسيتي، أؤمن بأنَّ الدّين بالمجمل ليس أفيوناً،لكن لكلّ دين أفيونه الخاصّ، سيجارة أو سيجارتان منه لن تضرّك، ستنتعش روحك ويصفي ذهنك وتضيء ملكوتك ..وترى العالم أجمل، لكن إن زدت الجرعة، فعندها ستكون إما راكضاً مع عباس، أو “مطبلاً” برأسك مع عبد الله…

* عن مدوّنة الكاتب.

السابق
مَن جرّ الفلسطينيين إلى الصراع السوري؟
التالي
أوباما: هزيمة داعش مستحيلة إلا برحيل الأسد