داعش والتحالف أم خيار آخر؟

ينبغي القول، منذ البدء، إن داعش والتحالف الدولي خيار واحد متبلور ومكتمل الأركان، وقطعاً ليس لنا أن نختار بينهما، ففي اللحظة التي نختار أحدهما نكون قد اخترنا وجهاً من وجهي عملة واحدة، تلزمنا، شئنا أم أبينا، أن نرى الوجه الآخر لها، ونرضى بتداوله بيننا. هو خيارواحد يجمع بين التخلف والإقصاء وتفتيت المنطقة والاتجاه نحو إحلال التفسير المشوه للمذهب مكان الدين الواحد، وتقسيم الوطن وأبنائه دويلاتٍ بحجم المِلل التي تتقاتل والنحل التي تتوالد. ويسمح بنهب مواردها، وتجفيف ينابيعها وسيادة الديكتاتورية والطائفية والاستبداد فيها. وجهان للعملة نفسها، كل منهما يمد الآخر بأسباب قوته واستمراره في طغيانه، ويدفع الآخرين نحو الاستقطاب باتجاه قطبين في عملية كيميائية بسيطة، من دون وجود أحدهما لا تكتمل المعادلة، ولا تتم.

هما طرف واحد، نعم. ليس لأن داعش صناعة أميركية، كما يحلو لبعضهم أن يبسط الأمور ويشرحها. وقد قيل عنها، قبل ذلك، إنها من صناعة مخابرات الأسد وغيرها من الأجهزة الأمنية، أو أنها حظيت بتمويل وتوجيه من بعض دول الخليج. قد تتمكن أطراف من توجيه داعش، وجرها عبر سياساتها إلى المربع الذي تريد، أو المعركة التي تختار. وهو شيء معروف في علم السياسة والحرب، أن تتمكن من دفع خصمك إلى الزاوية التي تريده أن يكون فيها.

داعش هي صنيعة الاستبداد وأنظمته، ونتاج للطائفية والمذهبية، وإقصاء الآخر وتهميشه، وغياب العقل وانحراف الرؤية عن العدو الرئيسي. هي صنيعة تلك السياسات التي بدأت بشعار إقصاء البعث في العراق، وطالت أكثر من مليون ونصف المليون مواطن، وحل الجيش العراقي الوطني الذي أصبح خيرة ضباطه وجنوده في صفوفها. ثم امتدت سياسات الإقصاء لتطال أقساماً كبيرة من الشعب، ضمن منظور طائفي غريب عن أمتنا ووحدتها. داعش صنيعة حرب أهلية في سورية طالت الأخضر واليابس، في أكبر كارثة عربية منذ نكبة فلسطين وأهلها. في هذه الحرب الأهلية المجنونة، حلت الكوابيس مكان الحلم بالحرية وبغد أفضل وبوطن حر. في هذه الأجواء، نمت داعش وازدادت قوة، وستنمو أكثر في ظل القصف الجوي والصاروخي الأميركي.

يقول التحالف (60 دولة) إنه يحتاج بين ثلاث إلى ست سنوات لإضعاف داعش، إضعافها فقط، ثم يحتاج إلى عدد غير معلوم من السنين للقضاء عليها، هي وصفة لحرب مفتوحة مستمرة، لا أفق لها في منطقتنا. وقد تمتد لتشمل أجزاء أكبر من حلمنا الذي يئن بين التحالف وداعش. تصرفات داعش وذبحها وسبيها مبرر لاستمرار الهجمة على منطقتنا، ليس للقضاء على داعش، والتي إذا تم القضاء عليها يختفي مبرر وجود التحالف، وتبحث الشعوب ساعتها عن خياراتها، وإنما لحماية الاستبداد، وتقسيم المقسم وتفتيته، وترسيخ الكيان الصهيوني جزءاً أساسياً من منظومة المنطقة، وتحالفات أنظمتها، وامتصاص ما تبقى من خيراتها ومواردها.

داعش ستنمو تحت ضربات التحالف التي تأتيها من السماء، وتمنحها مبرراً لوجودها، من دون أن تنال منه، وستفرخ دواعش أخرى، وتمتد لتحارب خصوماً صنعتهم هي بأيديها. وهي، حتى الآن، لم تقاتل سوى ملتها، ولم تحتل أرضاً، خصوصاً في سورية، إلا وكان يسيطر عليها حلفاء الأمس وأعداء اليوم. وفي نهجها أن من لم يبايع خليفتها هو عدو لها، وحكمه حكم المرتد، وقتاله أولى من قتال الأعداء. أعداء التحالف ليسوا أصدقاءها، وليست معنية بصداقتهم أو بكسبهم. هي مشروع لقتال في جبهتنا الداخلية، بل، وفي حاضنتها الأولى التي تشكلت بفعل الإقصاء الطائفي والمذهبي والحرب الأهلية. ترتد عليها لتقسم المذهب، وتفتت الطوائف، وتمزق نسيج الأمة، المتوحد بكل أديانها وطوائفها وقومياتها ومذاهبها.

نحن أمام إعادة تشكيل لمنطقتنا، بل ولهويتنا الحضارية، ولحاضرنا ولمستقبلنا، يتفق عليه ضمناً الدواعش والتحالف، ويكمل كل منهما دور الآخر، في تحالف تاريخي بين الاستبداد والقهر والاستعمار والتخلف. ويقود الأمة بأسرها إلى كارثةٍ محققةٍ، قد تفضي إلى انتهائها كأمة ذات حضارة وتاريخ مستمرين نحو مستقبل مجهول عواقبه. وهنا، ثمة سؤال يتفجر في الذهن، هل هذا هو قدرنا ومصيرنا؟ أم أن ثمة خيار آخر لنهوض الأمة، وتطلعها نحو مستقبل يزخر بالحرية والوحدة والأمان؟

في ظني ويقيني أن ثمة خياراً ثانياً لا بديل عنه، وقد يكون وحيداً أمام كل المتطلعين إلى رؤية وطنهم على امتداده حراً سيداً موحداً، وله مكانته الطبيعية بين الأمم. ينطلق هذا الخيار من ضرورة وحدة كل القوى الحية في وطننا العربي، على اختلاف مشاربها السياسية ومنابعها الفكرية، على قاعدة محاربة الاستبداد والفساد وحق الشعوب في الحرية، والتخلص من التبعية للأجنبي، ومساواة مواطنيها على اختلاف أصولهم وطوائفهم ومذاهبهم، ومحاربة الإقصاء والمغالبة والتأكيد على أن أمتنا ما زالت في مرحلة التحرر الوطني والبناء، ما يستدعي تشكيل جبهات وطنية عريضة في شتى المناحي، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، وتغليب التناقضات الرئيسة، دوماً، على الثانوية منها. هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق، أو تتحد الأمة وقواها حولها، إلا إذا كانت فلسطين ومحاربة الكيان الصهيوني فيها والنفوذ الإمبريالي في منطقتنا في القلب منها، وأساساً متيناً لانطلاقها، باعتبارها قضية عربية جامعة، توحد ولا تفرق، وتمنع العدو من التوغل في عمق أمتنا، وتضع أمامها عدوها الحقيقي لمقاتلته، وتوجيه كل أسلحتها نحوه، بدلاً من الأهداف الوهمية الزائفة التي تغرر بشباب الأمة، وتمعن فيها اقتتالاً وتفتيتاً وتقسيماً.

هذا هدف جمعي للأمة بأسرها، إن أرادت الإفلات من واقعها المرير، والتخلص من ثنائية داعش والتحالف، والتقدم خطوات نحو الأمام، وهو، بلا شك، يحتاج إلى برامج وسياسات ورؤى وأهداف أكثر تفصيلاً، قد يكون موضوعها في حلقات ودراسات وأنشطة أخرى نساهم فيها جميعاً.

السابق
«المقاومة» مهمة أم مهنة؟
التالي
حسن فضل الله: للعودة إلى مشروع الدولة