«المقاومة» مهمة أم مهنة؟

نحتاج إلى منجّمين لنفهم كيف يقيس “حزب الله” انتصاراته وهزائمه التي بدأت في بريتال أخيراً، وقبلها العديد من المعارك، لكن مساجلتها كانت محظورة لكونها من “طبيعة إلهية”. معين انتصاراته لا ينضب ولا يجف، في حال من الأحوال. وحدهم اللبنانيون، من غير بنيانه السياسي والأمني والجماهيري، مهزومون ويراهنون على الغرب المهزوم دائماً وأبداً بوعد إلهي لا محيد عنه.

مفوّهو الحزب من نواب وسياسيين “معممين” لا يقولون شيئاً عن التردي الإقتصادي، ولا عن الفلتان الأمني والانهيار الإجتماعي المتناسل فصولاً في القطاعين العام والخاص. كل ما يقولونه لنا هو “وعود الجنة”. أما على الأرض فلا شيء ينبئ بمستقبل في الجانب المشرق من العالم وبعيداً من ضجيج الحروب وتعداد الموتى والجرحى والمعوقين الآتين من “واجب الجهاد المقدس” في القصير والقلمون.
الحزب المقاوم لا يني ينذر الجميع: من يريد أن يبقى في لبنان عليه أن يؤمن بما يقوله ويعلنه قادته، هو، من على منابر المناسبات الدينية أو مناسبات الأحزان. ومن يرفض الاستماع أو يرى، نفسه، بعد في شبهة، على ما ردّ قاتل حمزة بن عبد المطلب عم الرسول على دعوة رسول الله له للإسلام، عليه أن ينصاع ويسلّم بما شاءه الله وقدره حزبه علينا جميعاً.
“المقاومة” وحدها ضماننا. هي ترتقي بنا مجتمعين. لكن كيف؟ لا إجابة إلى الآن. في وسط هذا الضجيج الممل، تنعدم أيّ رؤية تتضمن كيفية معالجة الرثاثة التي آلت إليها أحوالنا: فلا وجود لأيّ حديث عن وجوب الحصول على إستثمارات، أو النهوض بالمستويات التعليمية، أو حرية المرأة، أو مكافحة الفساد، أو حماية الثروات المائية.
في المقابل السياسي العام الذي لا يملك القدرة على الترف، لا نرى إلا خطاباً مفككاً وغير قادر على مواجهة فكرة “المؤامرة” التي صمّت بها المنظمة الخمينية آذاننا مديداً. جميعنا يسقط في حفرة “المقاومة” التي استدرجنا إليها “حزب الله”، ونذهب بعيداً في الحديث عن “التنوع” الموقوف على هيمنة فئة على فئات، وعن الأرز الذي لا يحترق ولا يعرف إلى اليباس طريقاً. إلى ذلك، ندخل سعداء في سجال عقيم وسقيم عن الدولة المقاومة، ومقاومة الدولة، وثلاثية الملل: الشعب والجيش والمقاومة.
لا يحدد “حزب الله” في خطبه المتنوعة وظيفة “المقاومة” أو دورها، وما إذا كانت مهمة أو مهنة. يتصرف دائماً كأنه يخطّ تاريخ لبنان وأهله الذين لم يحققوا شيئاً من قبله إلا العمالة والخيانة والإنخراط في “أحلاف الغرب الشرير”. ويستنكف السياسيون عن مواجهته – إلا تلميحاً – بأن مشجب المقاومة أصبح غير ذي معنى مذ كان “التحرير” في أيار العام 2005 وكحصيلة لجهد اللبنانيين مجتمعين بعد تراجعهم بعض الشيء عن جعل وطنهم “ساحة” وصندوق بريد.
على مشجب المقاومة المتجدد مذ هبطت مزارع شبعا على الخريطة “بوحي أُوحي”، يعلّق الحزب مثالبه وسياساته ونوازعه كلها لتبرير مسالكه الأمنية والعسكرية في البلد وعلى حدوده الجنوبية والشرقية، ولتقوية هويته في وسط جماعاته الأهلية التي ذاقت الأمرّين من الإحتلال الإسرائيلي، وبعدما وطّد النظام العربي الرسمي جنوب لبنان “ساحة” للتصارع.
يسلك الحزب الأمني والعسكري مسالك مَن ليس قبله بدء، على ما يقول الأكاديمي اللامع والكاتب وضاح شرارة. بحسب مفتاح نظره الصائب دوماً، لم يقدّم اليسار واليمين اللبنانيان شيئاً لحماية البلد وتحريره، ولا للقضية الفلسطينية التي صارت مقصورة على “بيت المقدس”: هكذا صارت فلسطين إرثاً إسلامياً لا حضارياً، ولم يعد شعبها صاحب أنبل قضية إنسانية، إلا متى كان هدفه الأسمى الصلاة في أولى القبلتين.
في السنوات القليلة الماضية، كان لسان حال “حزب الله” السياسي لا يهدد صراحةً، بل يشترط ويعترض ويعطل، لكنه في خطب مفوّهيه الاخيرة كان حريصاً على إقناع أو محاولة إقناع أكبر عدد من اللبنانيين بصواب موقفه وحرصه على مستقبلهم الأمني من دون السياسي والاقتصادي. هكذا صار يختصر الطموحات في السياسة والاجتماع والثقافة من أدناها إلى أقصاها.
لكن “حزب الله” في هامش من السياسة، كان حريصاً دوماً على استمالة الشطر الأوسع من اللبنانيين ودعوتهم إلى اتباع نهجه وخطه. يقول “حزب الله” إن ثمة “مؤامرة دولية” ضد المنطقة عموماً ولبنان خصوصاً وإنه سيواجه هذه المؤامرة بكل ما أوتي من قوى وإمكانات. لكنه مع ذلك، رفض عمداً، وعلى نحو مفجع، مد اليد إلى مختلف القوى، إذ لم يفوّت فرصة إلا وهدّد فيها اللبنانيين جميعاً بالويل والثبور وعظائم الأمور.
ما من شيء ينطلق منه الحزب ، إلا على قاعدة مقاومة إسرائيل. لكنه يجانب دائماً تعيين مصالح لبنان الآنية والمستقبلية من خلال النظر إلى البلد بوصفه وطناً متكاملاً بكل تنوعاته. فما يضير اهل أي دسكرة أو بلدة، يضير اللبنانيين جميعاً. وما يضير أي مذهب أو معتقد، إنما يضير الناس جميعاً. فكل “مقاومة” لا تلحظ البلد أهلاً وجماعات، هي هذر محكوم عليها سلفاً بالفشل، وسيفيد عدوّنا الأول: إسرائيل.
يعرف “حزب الله” قبل غيره، أن المقاومة لم تشكل إجماعاً لبنانياً عاماً في أي لحظة من محطات البلد. لم تكن الحال غير ذلك، يوم نهض بها يساريون وقوميون عروبيون، إذ كان الخلاف دائماً على جنس الملائكة فيها، وعلى ان الإحتلال متأتٍّ من الهيام والشغف بسياسات عروبية، ولاحقاً بعثية وخمينية.
تحرير الأرض حاجة وليس ترفاً، لكنه كان كذلك يوم أصبحت المقاومة تُدار على إيقاع مفاوضات مدريد. لهذا صارت المقاومة “مهمة” مشروطة بحاجيات المعطيات الديبلوماسية على المستويين السوري والإيراني. وإلى كونها صارت من طبيعة فئوية بعدما أُقصي كل تنوع عنها، فقد سقط عنها الأمران : المهمة والوظيفة. ولا تصحّ مقاومة، ما لم تشمل المناطق والطوائف برمتها، لأن من يريد النهوض بها محكوم بالتنوع ومحكوم بأن لا يكون فئوياً ولا انعزالياً. ذلك ان العكس يعني ان ثمة من ينظر إلى مصلحته وحده من دون أن يأخذ مصالح شركائه في اعتباره.
كان لبنان حازماً في التزام قضايا المنطقة وهمومها وتطلعاتها. وربما يجب ان يتذكر البعض أن النهضة العروبية قامت على اساس متين ولها رديف طارئ تاريخياً. فالطارئ التاريخي كان تأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ما أوجب على العرب جميعاً، واللبنانيون في مقدمهم، المساهمة في النضال من أجل إحقاق الحقوق الفلسطينية والعربية وتحرير الأرض من الاحتلال.
والحق ان من يراقب تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي لا بد أن يلاحظ هذه المفارقة: في بداية الصراع كانت الدول العربية من الشام إلى اليمن دولاً حديثة ومتصلة بالعالم خير اتصال، وتجهد قادة ونخباً وشعوباً في محاولة تحسين مواقعها على خريطة العالم، وكانت الدولة الصهيونية عبارة عن مجموعة من العصابات المتفرقة التي لا يمكن مقارنة مبانيها الحقوقية والسياسية بمباني الدول الحديثة، كمثل ما كانت عليه الحال في مصر او سوريا أو لبنان أو الكويت والعراق.
لكن هذا الصراع أسفر عن دول معطوبة في كثير من دول العالم العربي، وعن دولة شبه مستقرة في إسرائيل. الأرجح ان الدولة العبرية ربحت جولتها في هذا السياق أكثر من غيرها. لهذا لا يبدو الحديث عن بناء الدولة الحديثة المتصلة بالعالم، التي تطمح لتثبيت سيادتها على أراضيها وشعوبها، إلا عنصراً اساسياً من عناصر القوة التي يجب على الدول العربية، وفي مقدمها لبنان، السعي لامتلاكها في مواجهة العدو الإسرائيلي.
ذلك ان طموح بناء الدولة الحديثة ونشدان الإعتراف الدولي بحداثتها وتقدمها، هو إحدى أهم وسائل المقاومة ضد المشروع الإسرائيلي، وأحد أسباب القوة التي يجب ان نحوزها لإفشال الأحلام الأمبراطورية الإسرائيلية في إقامة دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل.
هذا كله، و”حزب الله” لم يكف عن إفهام اللبنانيين بأنهم جميعهم مجبرون على الامتناع عن اتهامه بأي شيء أو مساجلته، وأنه ليس أمامهم إلا القبول بما يريده هو، وسؤال العلي العظيم: الستر.
لكن سلوك “حزب الله” السياسي لم يتوقف عند حدود التعالي على اللبنانيين، بل تعدّاه إلى الإعلان الصريح، ومن دون مواربة، عن ازدراء مَن لا يرى من اللبنانيين رأيه. هذا ما قاله النائب نواف الموسوي في معرض دعوته الوزير أشرف ريفي إلى “الإعتذار عما فعله التكفيريون”، وخاطبه بوجوب “التخلي عن المراوغة مع الوحش ومواجهته، لا أن يُضيع الجهد في المواجهة معنا التي لا تُقدم ولا تؤخر”.
هكذا أصبح الوزير ريفي، وبحكمٍ لا رادّ له ولا طعن، مجرد عنصر من عناطر تنظيمي “داعش” و”النصرة” الإرهابيين. ولم يعد يملك حيثية منحته إياها شريحة عريضة من اللبنانيين بوصفه أحد مناضلي “ثورة الأرز” و “الاستقلال الثاني”.
آثار إزدراء الموسوي وغيره من مفوّهي الحزب، واضحة للعيان طبعاً. كما لا يتردد أيٌّ من الصحافيين أو السياسيين الدائرين في فلك “حزب الله” في وصف من يعتبرهم الحزب خصومه، بأشنع الأوصاف والصفات، تطلق تعبيراً عن شعور عميق بالازدراء، وشعور مَن يشعر بالقوة في نفسه في مقابل مَن لا يملك إلا رحمة الله والاقتناع بوجوب العمل لمغادرة “لبنان البلد” والعبور إلى لبنان الدولة الجامعة لكل اللبنانيين من دون فوقية لفئة على فئات أخرى.

http://newspaper.annahar.com/article/185574

السابق
التطبير يقسم الشيعة مشوِّهاً «إسلام الرحمة»
التالي
داعش والتحالف أم خيار آخر؟