المقدّس متجاوزاً وظيفته الدينية

انصار بيت المقدس

يتلازم المقدس والدين في علاقة جدلية، فلا وجود لأحدهما من دون الآخر. يحتل المقدس موقعاً جوهرياً بالنسبة إلى الدين، بل هو عماده الأساسي، ذلك ان المؤمن يوليه كل مظاهر المحبة والخوف والرهبة، بما يساعد على طاعته والتسليم له. منذ أن بدأ الإنسان بتلمّس الروحانية، بدأ تلمّسه للمقدس، مما جعله عنصرًا ملازماً لحياة الإنسان. تتعدد مقولة المقدس وتختلف في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع، فما كان مقدساً في فترة ما، قد لا يعود يكتسب صفة التقديس في مرحلة أخرى. تنوعت على امتداد التاريخ مواصفات مَن يحمل هذه الصفة: الله في الموقع الأول، يتبعه الآلهة المتعددون، والأشخاص الأسطوريون.

في العودة إلى تاريخ المقدس، نرى أنّ القدسي كان يرتبط بنشاطات المؤمن الدينية والدنيوية. فالإنسان البدائي كانت لديه قدسياته ومقدساته، تتجسد في الظاهر بأشياء مادية من نوع الشجرة أو النبع أو الحجر. لكن الإنسان البدائي، كان في حقيقته يعبد، ليس هذه الأشياء المادية، بل اقتناعه بالقدسي الذي يتجلى فيها.

المقدس والظاهرة الدينية

يمكن الإنسان أن يرى المقدس حاضرًا في كل شيء، بل يمكن أن يتحول كل دنيوي أو مدنّس إلى مقدس، والعكس بالعكس. فالتجربة الدينية، كما أظهرتها معظم الأديان، تفترض قسمة للعالم بين “مقدس” و”دنيوي”. يتحول الدنيوي إلى مقدس، كما أنّ نزع القدسية عن المقدس يعيد تحويله إلى دنيوي. لكن المقدس يكتسب وظيفة مختلفة تتصل بالموقع الذي يعطيه لمعنى الحياة الإنسانية، وللاطمئنان النفسي الداخلي الذي يسعى إليه الإنسان في مواجهة مشكلات الحياة. فالمقدس يوفر على الإنسان صعوبة السؤال عبر الإحالة على أجوبة جاهزة تحمل الأمان في ما تطرحه. في هذا الصدد، يشير عبد الهادي عبد الرحمن إلى أن “المقدس ليس الديني فقط (وإن كانت جذوره دينية)، وإنما المقدس يكمن في عاداتنا اليومية واعتقاداتنا، في تفاؤلنا وتشاؤمنا، في النظم التي تحكمنا، والطرق التي نحكم بها، في العلاقات ضمن العمل وفي العائلة، وحتى في المؤسسة الزوجية، وفي البديهيات والمسلمات والحكايا”.

يجد المقدس أعلى تجلياته في الأديان التوحيدية على الأخص، حيث يطغى بشكل كبير على كل ما يتصل بالدين، سواء على مستوى النصوص أو على مستوى الممارسة العملية، وبالطقوس والرموز وحتى الكثير من مظاهر الحياة اليومية. لا ينفصل المقدس عن البيئة التي نشأ فيها الدين، وهذا شان يطال الأديان التوحيدية الثلاثة. فالقدسي في الإسلام لم يكن بعيدًا عن القوى الخارقة، بل كان يراها مصدر القوة، مما جعله يردها إلى الله “فتغدو من امتيازات الله الواحد الأحد”. ذهب الإسلام بعيدًا في تجسيد التعارض بين قطبَي المقدس. من جهة، هناك العالم العلوي المتسم بالألوهية ومعه الملائكة وهو يتصّف بالقداسة، مقابل عالم القوى الدنيا الذي يتسم بالرجس وسيطرة الشياطين. وإذا كان القرآن يمثل بالنسبة إلى المسلمين أعلى درجات القداسة، في وصفه تجسيداً لكلام الله، فإنّ القداسة تنسحب على مظاهر مادية، من قبيل تقديس الحجر الأسود في الكعبة.

في الإنتقال إلى المسيحية، تبدو هذه الديانة مليئة بالمقدس، فهو حاضر بقوة من خلال الكنيسة وبركات الكهنة والقديسين. لكنّ المقدس الأول والأساس هو ما يتعلق بمكوّنات العقيدة المسيحية القائمة على الإيمان بالتثليث، أي الآب والإبن والروح القدس، وبكون المسيح هو الله متجسدًا في إنسان. على غرار الإسلام، للمسيحية كتبها المقدسة المتمثلة في الأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا)، ومعها أيضاً ما يُعرَف بأعمال الرسل. وتحتل مريم العذراء موقعاً مقدساً بامتياز، وكذلك المعمودية التي تعتبر شرطاً للإنتماء إلى المسيحية. لا تقل بعض أسرار الكنيسة قداسةً، من مثل سر التناول أو القربان المقدس.

لليهودية مقدساتها، التي تتراوح بين النصوص المتصلة بالتوراة وأسفارها الخمسة، وبالكتابات المتعلقة بالهلاخا (أي الشرع)، وصولاً إلى الموقع الذي باتت اللغة العبرية تحتله في وصفها مقدساً رئيسياً، إلى خصوصية هيكل سليمان لكونه أحد المقدسات المهمة لدى اليهودية، ويوازي عندها مقام الكعبة. كما يدرج اليهود اعيادهم في خانة التقديس.

المقدس في الحياة الدنيوية

لم يعد المقدس محصوراً بجوهر الدين أو بالعلاقة مع الله، إذ اقتحمت المظاهر الدنيوية هذا العالم القدسي، واحتلت موقعاً أساسياً فيه. اتسعت دائرة المقدس بشكل كبير، فطالت مسائل وقضايا لا صلة لها بالدين ولا بالمقدس، فتحول الدين نفسه إلى شمّاعة تُعلَّق عليها القضايا الدنيوية فيُكسبها الهالة القدسية، وتحولت الكائنات والأشياء إلى مقدسات تتمتع بسلطة تمكّنها من القيام بأشياء عجيبة. باتت الجوانب الدنيوية واليومية في حياتنا، وأحيانا حتى الأكثر ابتذالاً، من سلوك وممارسات، تحظى برداء التقديس، مكتسبةً هذه “النعمة” من الله، وهذا ما يعاكس الأصل في المقدس، بمعناه الإلهي والتطهري. هكذا أخذ الكثير من العادات والتقاليد يكتسب بعدًا تقديسيا، واتسعت داخل المجتمع دائرة المقدس، على رغم أنّ ما يعتبر مقدساً في مجتمع ما قد يكون مدنساً في مكان آخر، والعكس صحيح.

ليست القداسة مفهوماً غيبياً بعيداً عن السياق التاريخي لتطور المجتمعات، فالإنسان يصنع المقدس عندما يضفي على شيء ما هذه الصفة (عادة الختان، الكعبة، الصليب، الرموز الدينية…)، والإنسان هو الذي يوسع دائما من رقعة المقدس، بحيث يشمل الواقائع الحياتية، ويذهب به بعيدًا فيطال البشر من رجال الدين والمرجعيات الدينية الذين يعتبرون أنفسهم حَمَلة ختم القداسة، فيسبغونها على ما يريدون، ولا يتورعون عن إطلاق تهم الحرمان أو التكفير على من لا يتوافق مع تعاليمهم أو مسلكهم. يقدّم التاريخ البشري لوحة عامة تتصف بها المجتمعات منذ القدم حتى اليوم، يجري فيها استخدام النصوص المقدسة لإضفاء طابع القداسة والتعالي على أعمال البشر وتصرفاتهم وسلوكاتهم في الحياة الدنيوية. فلم يعد المقدس ذلك الشيء العلوي والإلهي، بل بدا أنه مخلوق باستمرار من البشر، نابع من الحاجات، وموظف في الصراعات الاجتماعية والسياسية، مما يعني ان نزع القدسية عن المقدس الدنيوي يشكل واحداً من أهم معالم تحرير المجتمعات العربية والإسلامية من الفكر الجامد والمنغلق على العصر.

في موازاة هيمنة القدسي على الحياة الدنيوية والإلهية وعلى المكان، تمدد ليطال الزمان أيضاً، فباتت ايام معينة وأشهر بكاملها مقدسة، على غرار أشهر الصوم، وبعض المناسبات الدينية، فاختلط فيها الإلهي بالدنيوي، وتدخّل المقدس في حياة الإنسان الإجتماعية والسياسية، إضافة إلى ما تفرضه من طقوس محددة.

يكتسب إضفاء المقدس على أمور دنيوية أو على المدنس أهمية سلطوية كبيرة، من خلال هالة من الحصانة والمناعة، لكونه متصلاً اتصالاً وثيقاً بالله نفسه، وهذا ما جعله مادة للتلاعب والإستخدام تضفي المشروعية على الأعمال غير المشروعة، وأحيانا غير الأخلاقية، والأخطر لدى توظيفه في العنف.

المقدس والعنف

احتل مثلّث المقدس والعنف والحقيقة موقعاً تحكّم ولا يزال بالكثير من حياة المجتمعات. يطال هذا المثلّث قضايا تتصل بالأديان ومنظوماتها اللاهوتية، كما يخترق الإيديولوجيات السياسية والعقائدية، عندما تعتبر كل مجموعة دينية، سواء داخل الدين الكلي أو عبر طوائفه ومذاهبه، أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وتمثل الدين الحق والصحيح، وما عداها يقيم في الضلال. هذا ما يجعل المدافعين عن هذه الحقيقة يتوسلون بإلغاء الآخر ورميه بالهرطقة أو الكفر والخروج على الدين القويم، بما يبرّر استخدام العنف ضده لإلغائه جسدياً أيضاً. هذه العلاقة الجدلية بين المقدس والعنف والحقيقة، تعود إلى بدايات التاريخ البشري، وقد عرفتها كل المجتمعات بدرجات متفاوتة، لكنها اتخذت في العصور الحديثة اشكالا مرعبة، سواء من خلال الحروب الدينية والمذهبية أو من خلال الحروب التي جرت تحت رايات الإيديولوجيات العلمانية من قبيل النازية والفاشية والشيوعية. إلاّ أنّ الدراسات عن المجتمعات البدائية لا تذهب إلى إقران العنف بالمقدس كما حصل لاحقاً مع تجذر الديانات التوحيدية، وهذا ما يشير رينه جيرار في وصفه العلاقة بين المقدس والعنف بالقول: “المقدس هو كل ما من شأنه أن يمارس على الإنسان سيطرة تتضاعف بتضاعف ظنّ هذا الأخير أنه قادر على إحكام السيطرة عليه. لذا كان يشمل بصفة ثانوية كل ما يمكن أن يدخل الروع إلى قلب الإنسان من عواصف وأوبئة وحرائق وغابات. لكنّ الأشد من ذلك هولاً هو عنف الناس أنفسهم، وإن يكن أكثر خفاء، عنف ينظر إليه كأنه خارج الإنسان، مما يفسّر اختلاطه بسائر القوى التي تضغط عليه من خارج. باختصار، إنّ العنف هو قلب المقدس الحقيقي وروحه الخفية”.

ربما كان التوظيف الأهم والأخطر للمقدس، ذلك الذي يتجلى في العلاقة بالسلطة، خصوصا عندما جرى، ويجري حاليا، إضفاء صبغة القداسة على الحاكم، ما يجعله معصوماً من الخطأ، ويجعل قراراته ذات صبغة إلهية، بحيث تمتنع على البشر محاسبته، ويتحول كل نقد لموقعه وسلطته تعدياً على المقدس المتمثل في شخصه، وتصبح ممارسة سلطته واستخدامه العنف مبررين لكونهما يستندان إلى الحق الإلهي، وهو حق مقدس لا جدال فيه، بحيث تبدو السلطة عصية على التغيير على غرار المقدس. في هذا المجال، وعلى امتداد التاريخ الاجتماعي والسياسي، نشأ حلف مقدس بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، حيث تسبغ الأولى المشروعية الدينية على القرارات السياسية للحاكم، وتكرّس قدسيتها ومنع نقدها أو المس بها.

في تاريخ الأديان التوحيدية، مارس المقدس والعنف دورًا مرعبا في حياة المجتمعات البشرية، فمنذ الانقسامات الأولى في المسيحية، والإنقسامات في الإسلام، ظلت مقولة الحقيقة التي يحملها كل طرف ماثلة في الصراع. ولأنّ هذه الحقيقة تمثل الدين الصحيح، بما يجعلها مقدسة، فإنّ استخدام العنف لتكريسها يصبح مشروعاً كلياً. هكذا دفعت البشرية مئات الألوف من البشر، ولا تزال تدفع، من أجل الهيمنة على المقدس لصالح هذه الفئة أو تلك.

في زمننا الراهن، يتخذ الإرهاب الذي تمارسه التيارات الأصولية الدينية، في الإسلام والمسيحية واليهودية، طابع الدفاع عن المقدس، ويتم القتل والتدمير تحت هذا القناع، قناع الدين الحق. تجادل التيارات الأصولية كل من يتهمها بالخروج عن الدين عبر استخدامها العنف، بأنّ النصوص الدينية المقدسة هي التي تشرّع لها هذا الاستخدام. هذا صحيح عندما نقرأ بعض ما ورد في هذه النصوص مقطوعة أو منزوعة من سياقها التاريخي وظروف نزولها. يفاقم العنف المقدس، الدور الذي تؤديه المؤسسات الدينية وطبقة رجال الدين التي أنتجتها، لدى كل الأديان التوحيدية، من خلال إضفاء سلطة التقديس على ما يتجاوز الأمور الدينية والإلهية، بتقديس المدنس والتوسع في خلعه على أمور دنيوية وعلى الشعائر والطقوس.

المقدس مانع للتقدم؟

المقدس واحد من المكوّنات الرئيسية للظاهرة الدينية، وهو بهذا المعنى لا يزال حياً، بل ويزداد حضوره في كل المجتمعات البشرية. إذا كان المقدس يجد ميدان ازدهاره في المجتمعات التي لم تحقق درجات متقدمة من التطور العلمي والتقدم والتقني، وفي مجتمعات تهيمن عليها الأفكار التقليدية، ويلعب فيها رجال الدين مواقع مقررة بحيث يضفون التقديس على أمور لا علاقة لها بالمقدس، من أجل توسيع مساحة هيمنتهم على العقول وعلى السلوك الإجتماعي، فمن الواجب الإعتراف بأنّ المقدس عاد يشهد انبثاقاً وازدهارًا في المجتمعات التي عرفت تطورًا في تحقيق العلمنة، وانحسارًا في الممارسات الدينية التقليدية. يعيد باحثون تصاعد هذه الظاهرة إلى حاجة الإنسان الى الماورائيات والروحانيات، في ظل هيمنة التكنولوجيا والثورة العلمية على المجتمعات وإدخالها عناصر الشك على كل ما لا يتوافق والنظرية العلمية والرياضية. تؤكد هذه العودة استحالة نزع القداسة من الحياة البشرية، سواء اتخذ التقديس شكل ممارسة الشعائر الدينية، أو إسباغ القداسة على الأمور الدنيوية.

لكن في المقابل، لا يمكن إنكار تراجع حجم المقدس بالشكل الواسع الذي كان معروفاً فيه، وذلك في المجتمعات التي حققت تقدماً علمياً، بما يجعل وجوده مختلفاً نوعياً عما هو عليه في المجتمعات البدائية أو السائرة في طريق التقدم. حطمت الثورة الفكرية والعلمية، إضافة إلى التحرر السياسي الذي انطلق من عصر الأنوار الأوروبي، الكثير من المعتقدات والقضايا التي أسبغت عليها المؤسسات الدينية أو السياسية هالة التقديس. تتناقض مقولة المقدس، بمعناها الإلهي والثابت الذي لا يتبدل، مع مفهوم العلم بمعناه التجريبي التحليلي، لذا يرى العلم في المقدس عاملاً معوقاً لنظرياته وأبحاثه التي لا تقبل قيودًا على النتائج التي تتوصل إليها. فالعلم مضطر لنزع هالة التقديس عن الظاهرة التي يسعى إلى البحث فيها، وقد يلجأ أحياناً، في سياق التسوية مع المقدس، إلى حصر الموضوع في الجانب الإيماني، ونزع الهالة القدسية عن الظاهرة لتصبح العقول قادرة على إدراكها بعيدًا من التابوات والمحرمات التي يفرضها هذا المقدس.

لكنّ المقدس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية يمثل أحد المعوقات المهمة والصعبة أمام تطور شعوب هذه المجتمعات. الأخطر في المقدس، هيمنته على التراث الفكري والديني، وخلع التقديس عليهما، بما يمنع قراءة التراث قراءة علمية تاريخية، تفرز بين ما يحويه من قضايا يمكن الإفادة منها، والتخلي عن الأمور التي تقادم الزمن عليها. في الفكر الديني، تنتصب القداسة عائقاً أمام الإجتهاد والتأويل، ويصبح النقاش في هذه الأمور من باب “المستحيل التفكير فيه” وفقاً لتعبير محمد أركون. تعاني مجتمعاتنا من السلطات التي تفرض التعاطي مع التراث كما يقدم نفسه، وإسقاطه على حياتنا الفكرية والسياسية والإجتماعية، وإلزام هذه المجتمعات قبول محتواها والعمل به، من دون الأخذ في الإعتبار مرور مئات السنين عليه. تمثل قضية خلع القداسة عن التراث الفكري والديني في مجتمعاتنا محور الإصلاح في جميع ميادينه، وشرطاً لقيام مشروع نهضوي متجدد. كما يشكل نزع التقديس عاملاً اساسياً في تجاوز مجتمعاتنا لتخلفها الذي تقيم فيه “سعيدة” منذ قرون، وشرطاً للدخول في التاريخ الحديث والإفادة من مكتسبات تقدم العصر.

السابق
الجالية الكردية اعتصمت في عين المريسة تضامنا مع كوباني
التالي
جاروشة يوسف صمادي في كفررمان العتيقة