بورتريه للدبلوماسي المخضّرم خليل مكاوي

خليل مكاوي
ينفرد موقع "جنوبية" وبالتعاون مع مركز "تطوير" للدراسات بنشر ملخص تقرير المركز الرابع وينشر هنا بورتريه للدبلوماسي المخضّرم خليل مكاوي بقلم ميّ الصايغ.

لم يأت تكليف رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة للسفير خليل مكاوي رئاسة لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني في عام 2005 من فراغ. فالدبلوماسي المخضّرم الذي تقلّد أرفع المناصب اللبنانية في عواصم القرار العالمي، لطالما عُرف بـ”حكمته وهدوئه وكفاءته” وتقديم مصلحة لبنان على ما سواه. كان مكاوي يسير في حقل ألغام، بذل كل جهده لتفكيكها، لا سيما وأنّ لجنة الحوار شكّلت مقاربة جديدة اتخذتها الحكومة اللبنانية لأول مرة منذ لجوء الفلسطنيين إلى لبنان في عام 1948، بعد ان تُرك هذا الملف يتفاعل حتى تسممت العلاقات بين الجانبين اللبناني والفلسطيني، وباتت مسكونة بانعدام الثقة والهواجس المتبادلة.

غير أنّ خبرة مكاوي التي إكتسبها في نزع الألغام عقب عودته من نيويورك، إذ تولّى بتكليف من وزير الدفاع في حينه خليل الهراوي التنسيق بين وزارة الدفاع اللبنانية ومنظمة الأمم المتحدة لنزع الألغام الإسرائيلية في الجنوب، لم تشكّل له درعاً لحماية نفسه من لغم الحسابات السياسية الذي انفجر في وجهه ودفعه إلى تقديم إستقالته من لجنة الحوار، على رغم أنّه يسجّل له إرساء أسس جديدة في مفهوم العلاقات بين الجانبين الفلسطيني واللبناني على الصعيدين الرسمي والشعبي.

يقول المدير التنفيذي لملتقى التأثير المدني زياد الصائغ الذي كان مستشاراً لمكاوي في لجنة الحوار: “السفير مكاوي رجل أسّس لمرحلة جدية في التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين وتوضيح الإلتباسات السابقة، معزّزاً مرجعية الدولة، كما أظهر للمجتمع الدولي أنّ الحكومة اللبنانية تملك رؤية واضحة حيال اللاجئين”.
ويتابع الصائغ في حوار مع “مركز تطوير”: “لقد أدرك السفير مكاوي أنّه لا يمكننا مطالبة الفلسطيني بشيء وعدم فعل أي شيء أخر له، ليس على قاعدة المقايضة، بل على أساس المصلحة الوطنية”.

لقد وضع مكاوي أسساً صلبة وواضحة لما يجب ان يكون عليه مستقبل العلاقات بين الجانبين الفلسطيني واللبناني، وأدخل نقلة جديدة في مقاربة وضع المخيمات من المفهوم الأمني إلى “الأمان الانساني”، تعزيزاً لعودة سلطة الدولة الى المخيمات، كما دعا إلى منح اللاجئين الفلسطنيين حياة كريمة مع حماية حقهم بالعودة، ما يعني ارتباط مقومات الصمود بالعودة وابقاء مسؤولية اللاجئين على عاتق المجتمع الدولي، والتمسّك بحق العودة وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194
كان مكاوي يأبى الظهور إلاّ نادراً ويعمل 20 ساعة في النهار. ويقول الصائغ: “ما يميّزه أنّه يصغي للآخرين. فهو ليس رجل القرار الآحادي بل رجل المشورة بامتياز”، موقفه متزن، مصطلح “تسويات” على حساب مصلحة لبنان غير موجود في قاموسه، ولا يراعي في حساباته سوى مصلحة لبنان ولا يحابي طرفاً ضد آخر، وهو مناصر للتوافق على قاعدة المصلحة الوطنية.

ومكاوي رجل يؤمن بمفهوم “حقوق الإنسان وسيادة الدولة والدبلوماسية الهادفة وليس دبلوماسية العلاقات العامة”،على حد تعبير الصائغ.
أمّا حكاية تعيينه لرئاسة لجنة الحوار فيرويها السفير مكاوي بنفسه. ويقول في حوا ر مع “مركز تطوير”: “في تشرين الأول 2005، أتّخذ رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة قراراً إستراتيجياً وتاريخياً يقضي بتنظيم العلاقات بين الجانبين اللبناني والفلسطيني، وكان انشاء لجنة الحوار التي تضمّ ممثلين عن عدد من الوزارات التي على تماس مع شؤون اللاجئين الفلسطنيين (الخارجية، العدل، الشؤون الاجتماعية والصحة)”. كان الهدف من تشكيل هذه اللجنة تحقيق ثلاثة أهداف أساسية: تحسين الحياة الإنسانية والاجتماعية للاجئين الفلسطنيين في لبنان، معالجة موضوع السلاح الفسلطيني خارج المخميات وداخلها، وإعادة الوصل على الصعيد الدبلوماسي بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية”، بعد ان أُقفل مكتب المنظمة في الحرب وأُعيد افتتاحه في عام 2006 ليعود ويتسلّم السفير عباس زكي منصب سفير دولة فلسطين في لبنان.
إستهلت لجنة الحوار أعمالها بالتواصل مع جميع الفئات والفصائل الفلسطينية وبدأت اجتماعاتها مع الفصائل المحسوبة على منظمة التحرير لبدء صفحة جديدة وبعدها مع “حماس” وتمنينا على الفصائل تشكيل وفد موحّد لمصلحتهم ومصلحة لبنان. ويوضح مكاوي أنّ “الهدف كان إزالة التشجنات وإعادة الثقة بين الجانبين، فالحياة الكريمة للاجئ الفلسطيني تشكّل عنصر إستقرار في لبنان، وطالما هناك حالة بؤس، ستكون المخيمات أرضية خصبة للمتطرفين”. دبلوماسياً، نجحت لجنة الحوار في إعادة العلاقات بين لبنان وفلسطين وإرسائها على أسس جيدة وواضحة. مع تسلّم عباس زكي منصبه، باتت السفارة المظلة التي ينضوي تحتها جميع الفصائل الفلسطينية. وقد عززت الزيارات العديدة التي قام بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والتي أكّد خلالها بوضوح على أنّ السلاح الفسلطيني يجب ان يكون تحت سيادة الدولة والقانون اللبناني، هذه الأسس الجديدة.

كان عمل لجنة الحوار يسير وفق إيقاع متسارع حتى عام 2006 حين بدأ الإنشقاق السياسي يتعمّق في لبنان وداهمتها احداث نهر البارد. تطلّب ذلك جهداً كبيراً للتصدي لهذه الكارثة الإنسانية التي أجبرت 30 الف فلسطيني على النزوح إلى مخيم البداوي والقرى المجاورة. ويقول مكاوي: “كانت اجتماعاتنا يومية في السراي بحضور السنيورة وتمتد حتى منتصف الليل، لمعالجة القضايا التي نجمت عن أزمة البارد وتأمين المستلزمات والمأوى والطعام لللاجئين”. بالإرادة الصلبة والتعاون ما بين لجنة الحوار ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الإنروا” والمنظمات غير الحكومية استطعنا “تخفيف وطأة هذا العبء”، يتابع مكاوي.

ويذكّر بأنّه كان للجنة الحوار دور كبير في التحضير لمؤتمر فيينا. ويقول: “أعددنا والسنيورة ملفات لاعادة بناء مخيم نهر البارد وطلبنا تقديم المساعدات للمناطق المجاورة للمخيم حتى لا يشعر الباقون بأنّنا نميز الفلسطيني عن غيره ولتجنب النقمة”. ويضيف: “طالبنا بـ450 مليون دولار لبناء المخيم ومساعدة الأهالي على ترميم منازلهم. تلقينا وعداً بأنّ الدول العربية ستساهم بـ250 مليون دولار، الأمر الذي لم يتحقق خلال المؤتمر، إذ إن غالبية المساهمين كانت من الدول الأوروبية والولايات المتحدة. بدأ العمل بـ 125 مليون دولار، وتمّت ازالة الركام والالغام. كان القرار باستملاك الدولة اراضي المخيم لأنّه من دون ذلك لا يمكن انطلاق ورشة البناء”. خلال ترأسه للجنة الحوار تم بناء 3 اقسام من اصل 8 في نهرالبارد.
وأتخذ مكاوي قراراً بدعم من رئيس الوزراء بانّ مخيم نهر البارد يجب أن يكون تحت سيادة الدولة وبضرورة انشاء مخفر لتثبيت سيادة الدولة، وهو المخفر الذي افتتح في 2011.

ويقول: “أتفقنا على أنّ الفلسطيني يجب أن يعامل كاللبناني وأن انتشار الجيش داخل المخيم سيشعر الفلسطيني بتطبيق إجراءات قمعية ضده، لذلك كان قرار إنتشار عناصر قوى الأمن الداخلي، على أن تكون على دراية بتعقيدات الملف الفسلطيني وان تتعامل بالحسنى وبالتشاور مع الفلسطنيين”.
إلى جانب ذلك، ماذا حققت هذه اللجنة؟
يوضح مكاوي أنّه بين عامي 2008-2009 عقدنا مؤتمراً في السرايا، وطلبنا من الإنروا تقديم المشاريع الحيوية الضرورية لتحسين المخيمات، وحصلنا من الدول المانحة نحو 40 مليون دولار . أموال صُرفت على القضايا الصحية وأهمها إنشاء مستوصفات طبية، كما على البنى التحتية والمجارير وإعادة ترميم المنازل داخل المخيمات.
ويقول: “منذ ستين عاماً كانت هذه المخيمات متروكة، وعلى رغم ضخامة العمل الذي أنجزته اللجنة، يبقى أنّ القضايا والمشاكل الموجودة تتطلب سنوات عديدة لحلها”. كانت إنطلاقة موفقة، فلأول مرة يزور وفد وزاري المخيمات، ولاسيما مخيم عين الحلوة الذي كان منطقة محرّمة. يتابع مكاوي: “عالجنا مسألة الفلسطيني الذي كان يسافر الى خارج لبنان ويحصل على جنسية أجنبية فعندما يعود تسحب منه وثيقة السفر اللبنانية. اكتشفنا انّ ذلك يخالف قراراً صادراً عن الجامعة العربية، ينصّ على عدم جواز سحب وثيقة الاقامة من الفلسطيني في لبنان اوالأردن”.

ولم تغفل لجنة الحوار ملف فاقدي الأوراق الثبوتية لغير لاجئي 48، وهم اللاجئون الفلسطينيون الذين يحملون إقامات اردنية ومصرية انتهى مفعولها، والذين قدموا إلى لبنان بعد أحداث ايلول 1970. قانونياً لا يمكن اعتبار هؤلاء لاجئين، ما دفع مكاوي إلى التنسيق مع الأمن العام وبمساعدة السفارة الفلسطينية لتحديد من هو فاقد الاوراق الثبوتية، وبدأ الامن العام باعطائهم اوراق “فلسطيني مقيم في لبنان”، والاعتراف بجواز السفر الفسلطيني.
لم تكتف لجنة الحوار بترميم العلاقات على الصعيد الرسمي فقامت بالتقريب بين الفلسطينيين واللبنانيين، وذلك بعرض أفلام عن أوضاع اللاجئين يليها نقاش، كما اقامت مخيمات عمل تجمع طلاباً فلسطينيين ولبنانيين، فضلاً عن إقرار تعديلات متعلقة بحق العمل للفلسطيني، وصدور قانون يوسّع مجالات عمل الفلسطينيين في لبنان باستثناء 17 مهنة. (سابقاً كانت لائحة المنع تشمل نحو 70 مهنة).

مع تسلّم الرئيس سعد الحريري رئاسة الحكومة، جرى تفاهم سياسي على إنشاء وزارة دولة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، بحيث تتحول لجنة الحوار إلى لجنة تقنية ويهتم الوزير بالشق السياسي. ومع أن هذه الوزارة لم تبصر النور لاحقاً، إلا أن السفير مكاوي قدّم استقالته اعتراضاً على عدم استشارته في مصير لجنة نجح في إدارتها.
قرار الإستقالة لم يندم عليه مكاوي، فهو عمل لمصلحة لبنان، وهو على قناعة تامة بأنه إذا تحسنت اوضاع اللاجئين الفلسطينيين، نكون قد كسبنا عاملاً أساسياً لاستقرار لبنان.

أما نصيحته لرئيس اللجنة الحالي فهي الاستمرار في النهج الذي بدأ عام 2005، مع ضرورة أن تقوم الدولة اللبنانية بحملة دبلوماسية مركزة لدعم حقّ الفلسطينيين في إنشاء دولتهم المستقلة على أرضهم في حدود 4 حزيران 1967، على أن يبقى الفلسطيني في لبنان حاملاً صفة “لاجئ” إلى حين عودته إلى وطنه.
في المحصلة، نجح مكاوي، الذي انتخب رئيساً لمنتدى سفراء لبنان منذ سنتين، في ترميم العلاقات اللبنانية- الفلسطينية، وتمكن من التواصل مع كل القوى بفعل حنكته ومصداقيته وصمته في كثير من الأوقات. ويقول زياد الصائغ: “في لبنان من لا يعرف يقرر وغالباً من يعرف لا يسمح له في اتخاذ القرار. آن الاوان للاصغاء الى التكنوقراط لأنّه من دون ذلك لن يتحقق الإصلاح”.

السابق
قلق إسرائيل.. وجودي أم حدودي؟
التالي
جيانيني: أنا هنا لبناء جيل جديد من اللاعبين