الجامعة الإسلامية التركية: بديل عن الأزهر و«الوهابية»

لم يأخذ المشروع الذي اقترحه رئيس إدارة الشؤون الدينية في تركيا، محمد غورماز، عن إنشاء جامعة إسلامية، أصداء كبيرة، سواء في العالم العربي أو تركيا. إذ كشف أنّ تركيا تخطط لإنشاء جامعة إسلاميّة دوليّة في إسطنبول، على غرار جامعة الأزهر في القاهرة أو الجامعة الإسلامية في كل من باكستان وماليزيا.

وأشار غورماز، خلال فترة الحج أثناء رئاسته لأفواج الحجاج الأتراك، إلى أن العمل يجري على إنشاء هذه الجامعة لأسباب عديدة، أهمّها “عدم قدرة هذه الجامعات حتى الآن على إيجاد حلول للمشاكل في العالم الإسلامي، واستعداد تركيا للمشاركة بشكل أكبر في سوق الأفكار الإسلامية”.

وتخلّلت تصريحات غورماز، انتقادات شديدة وجهها إلى السلطات السعودية، متهماً إياها بـ”تدمير التاريخ” عبر بناء ناطحات سحاب ستطغى على منظر الكعبة، كما انتقد ما وصفه بـ”الإسلام السعودي” مقابل “الإسلام التركي” أو العثماني، على خلفيّة العلاقات التاريخيّة الشديدة العدائيّة بين السلطنة العثمانيّة و”الحركة الوهابيّة” منذ بداية صعود نجمها. وكان السلطان العثماني قد وجه واليه على مصر، محمد علي، الى ضرب التمرّد الذي قادته “الحركة الوهابيّة” في أواخر القرن التاسع عشر ونجح في ذلك حينها.

ويحمل إنشاء الجامعة الإسلامية، الكثير من الإشارات، سواء على المستوى الداخلي التركي أو على مستوى موقع تركيا السياسي، في ظلّ التراجع عن السياسات الغربيّة التي اتخذتها الحكومات التركية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية، والى حين وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة، مبشراً بما يطلق عليه الآن “الإسلام الليبرالي”، وما رافق ذلك من عودة قوية نحو الشرق الأوسط ووسط آسيا المسلمين.

على المستوى الداخلي، ومنذ تأسيس الجمهورية العلمانية، لم يكن أي ممن احتلوا منصب غورماز، أي رئاسة إدارة الشؤون الدينية، (وزارة الاوقاف أو مجلس الإفتاء في العالم العربي والعالم الإسلامي)، ليتفوّه بأية كلمة عن التعليم قبل صعود “العدالة والتنمية” إلى الحكم. ويُعدّ موضوع التعليم من أكثر القضايا حساسية في عهد الوصاية العسكريّة، إذ كان يُدار بقبضة الجنرالات العلمانيّة المتشدّدة، وبالتالي لم يكن ليسمح لا بتأسيس جامعة إسلاميّة، ولا أن تكون إدارة الشؤون الدينية ناشطة بهذه الطريقة في هذا الشأن.

في الواقع، كسر حزب “العدالة والتنمية” الكثير من المحرّمات في الجمهورية، إذ يتوازى اليوم تنامي دور إدارة الشؤون الدينية مع صعود دور المدارس الدينيّة في تركيا، والتي يُطلق عليها اسم “ثانويات الإمام الخطيب”. وتحولت أيضاً كليات العلوم الدينية واللاهوت أو ما يطلق عليها “كليات الإلهيات” في الجامعات التركيّة، والتي توازي كليات الشريعة في العالم العربي، لتتخذ دوراً أكثر محوريّة بعد أن كانت هامشيّة في حقبة ما قبل “العدالة والتنمية”. وتضخّم مركز “الدراسات الإسلامية” في إسطنبول، والذي تأسس عام 1988، ليصبح جامعة أطلق عليها عام 2010، اسم “29 مايو/أيار”، في إشارة إلى تاريخ فتح إسطنبول على يد محمد الفاتح عام 1453. كما تمّ إنشاء مبان حديثة في منطقة العمرانية في إسطنبول. وكان غورماز أشار في تصريحاته ذاتها إلى أنّ جامعة “29 مايو/أيار” هي التي ستصبح الجامعة الإسلاميّة الدوليّة.

على المستوى الخارجي، وفي وقت يبدو فيه أنّ مشروع الجامعة سيحقق إضافة للحياة الأكاديميّة التركيّة، لكنّه من الواضح أنّه يعكس أيضاً محاولة استعادة الدور التركي (العثماني) التاريخي، كحامٍ للفكر الإسلامي السنّي في العالم. وتؤكّد ذلك تصريحات غورماز، التي ذكر فيها جامعات إسلامية كبرى مثل جامعة الأزهر في القاهرة، والجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة أو جامعة إسلام آباد الإسلامية في باكستان. وقال إنه “تم العمل على هذا المشروع مدة ثلاث سنوات، ونرى أنّ المناهج الدراسيّة في هذه الجامعات، أي الأزهر والإسلامية في كل من المدينة وإسلام آباد، لا تساعد في توفير حلول لمشاكل المسلمين”، معتبراً أنّ “العلماء الذين يتخرجون من هذه الجامعات، أصبحوا المشكلة نفسها، بدلاً من حلّ المشاكل”.

من جهة أخرى، قد يكون هذا المشروع نتيجة لانزعاج حكومة “العدالة والتنمية” من بروز الأزهر في مصر، باعتباره السلطة الدينيّة الرئيسيّة في العالم الإسلامي، خصوصاً بعد دعم قدمته سلطات الأزهر إلى الانقلاب العسكري، بقيادة عبد الفتاح السيسي. وكان إردوغان انتقد علناً شيخ الأزهر، في خطاب ألقاه في أغسطس/آب 2013، بسبب “انحيازه لمصلحة الانقلابيين”.

ويمكن للوسط الثقافي والسياسي في تركيا أن يساعد ربّما، في ترسيخ الديمقراطيّة والقيم المدنيّة الأخرى التي يبدو العالم الإسلامي في أشد الحاجة إليها اليوم، خصوصاً أنّه لدى تركيا جيل من علماء الدين المؤهلين والمنفتحين، الذين نشروا أعمالاً مهمّة بشأن مسائل خلافية عدّة، مثل إعادة تفسير الشريعة الإسلاميّة، وتنشيط الفكر العقلاني في الدين الإسلامي وإحياء التفكير النقدي للتقاليد الإسلامية. لكنّ كل هذه الانتاجات لا تزال باللغة التركية، بل وظلت مجهولة إلى حدّ كبير بالنسبة إلى العالم الخارجي. ويمكن للجامعة الإسلامية العالمية المقترحة، أن تساعد على جعل هذه الأبحاث في متناول المجتمعات الإسلاميّة الأخرى. ويُعدّ غورماز نفسه، من العلماء البارزين، الذين لديهم وجهات نظر مختلفة بما يختصّ بإعادة تفسير النصوص الإسلاميّة، وخصوصاً الحديث النبوي. وترأس “مشروع الحديث”، الذي قامت به إدارة الشؤون الدينية ولاقى ردود فعل إيجابية، حتّى في الإعلام الغربي، بوصفه “إعادة رؤية جذريّة للنصّ الإسلامي”.

تعتبر تركيا ذاتها، أرض معركة شرسة، بين علماء الدين الإصلاحيين، الذين يحاولون الاستعانة بأدوات النقد الحديثة، ضدّ العلماء التقليديين المتمسّكين بوجهة النظر السلفيّة، والذين لا يزال لهم ثقل كبير في صفوف “العدالة والتنمية” نفسه، الأمر الذي اتضح من خلال قرار إدارة التعليم العالي، العام الماضي، بإزالة دروس الفلسفة من كليات العلوم الدينية أو اللاهوت، والذي تراجعت عنه تحت ضغط الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها، إذ تناول الإعلام المشكلة حينها بوصفها اعتداءً سلفياً على اللاهوت التركي.

السابق
أربعة خلفاء غير راشدين: أبو بكر، علي، رجب، وعبد الله
التالي
تفجير ذخائر في محيط بلدة معركة الجنوبية