انتفضوا سنّة وشيعة ومسيحيين ودروزاً وعرباً وإيرانيين وأكراداً وأتراك

I
قلنا بالأمس أن ثمة مخرجاً من أتون المحرقة الطائفية الزاحفة كألسنة اللهب في المنطقة، والتي تتشابك فيها عوامل التقسيم الخارجي مع عناصر التفتيت الاخلي. وسنقول اليوم لماذا.

قبل أسابيع قليلة، أجرت مؤسستا الـ”بي.بي.سي” و”بيو” استطلاعات رأي للشباب (من كل المذاهب والأعراق) في العديد من الدول العربية، تبيّن فيها أن غالبية هؤلاء يرفضون العنف والتطرف، ويريدون فرصاً توفّر العمل والمعرفة والمستقبل الآمن.

وهذه في الواقع محصلة متوقعة. فعلى مدار التاريخ، كان التيار الرئيس أو الغالبية ( Mainstream) لدى كل الشعوب يميل إلى الاستقرار والسلام، فيما يقتصر أرباب العنف والقتل والإبادات الجماعية على 5 في المئة لا أكثر. وحتى في أنظمة النخب النازية والفاشية التي تسلب عقول شعوبها وتخلب خيالاتها وتصادر إرادتها بإديولوجيا العظمة القومية الخيالية، لايطول الوقت قبل أن ينقلب التيار السائد على هذه النخبة بعد أن يكتشف المهالك التي تجره إليها.

هذه الواقعة التاريخية تساعد في الإضاءة على نقطة مهمة في خضم بحثنا عن المخارج: سطوة وصعود تيارات التطرف والإرهاب والمتذهب الأعمى لاتكمن في قوتها الذاتية (فهي في النهاية أقلية ضئيلة)، بل في ضعف أو تردد أو تخاذل وانكفاء القوى العقلانية والتقدمية والديمقراطية واليسارية والبيئية، وعجزها عن التعبير عن إرادة وآمال وتطلعات يةتيار الغالب في مجتمعاتها. ومثل هذا الفراغ هو الذي مكّن في السابق قيادات الحركات الفاشية على أنواعها، من هتلر وموسوليني وفرانكو وبول بوت وغيرهم الكثير، من التحوّل إلى حركات جماهيرية والسيطرة على مجتمعاتها؛ وهو مايمكّن الآن ميليشيات داعش والنصرة والسلفية الوهابية الجهادية وبدر وجيش المهدي وأبو الفضل العباس، من احتلال مركز الصدارة في الفعل السياسي في طول المنطقة وعرضها.

إن الطبيعة تكره الفراغ، وهي لاتهتم بمن يملؤه، لأن الأولوية القصوى بالنسبة إليها هي ملؤه وحسب. وهذا بالتحديد مايحدث الآن في الشرق الأوسط الإسلامي: أقلية عدمية وفاشية تملأ فراغاً تركته انسحابية القوى العقلانية- الإنسانية، ما جعل غالبية التيار السائد لقمة سائغة في فم الوحوش المذهبية والطائفية.
لكن هذا يجب أن ينتهي الآن.

II

لقد قلنا في البداية أن ثمة مخرجاً من هذه المحرقة. لكن حتى لو لم يكن هذا المخرج موجوداً، فيتعيّن خلقه. إذ ماهو في الميزان الآن لايقل عن كونه، حقيقة، سباقاً بين الحياة والموت؛ بين البقاء أو الانقراض؛ بين السلام المستدام وبين الحروب الأهلية الدائمة. ومن يعتقد أن في هذا الأمر مبالغة، ليس عليه سوى إعادة إحصاء أشلاء مئات آلاف القتلى والجرحى والمهجرين، والمنازل والقرى والبلدات والمدن التي دُمِّرت، والاقتصادات والبيئات التي أُحرِقت، في هذه المحرقة المجنونة التي لاتزال في بداياتها الأولى. والآتي أعظم.

III

ما العمل؟
في اللحظة التي نكتشف أو نعي فيها مسؤوليتنا عن الفراغ الذي تملؤه الآن الوحوش الطائفية والمذهبية ماقبل التاريخية، ستلفح وجوهنا جميعاً كلمة واحدة: “انتفضوا”.

انتفضوا على ماذا؟
انتفضوا” على هذه “الجهنم” التي نعيش مع طالع كل صباح، حيث تتحوّل نسائم الحياة إلى رسائل موت متفجرة تنشر القتل والدمار في كل مكان، من شمال إفريقيا إلى جنوب شبه الجزيرة وسوريا والعراق وفلسطين. لقد أصبحت حياتنا مسلسلاً متصلاً من القلق والخوف والرعب والأمراض النفسية. وهذا بالطبع إذا لم نتحدث عن مآسي اخوتنا وأطفالنا ونسائنا في حلب وبغداد والموصل وصنعاء وطرابلس وبيروت، والتي اعتبرتها الأمم المتحدة أكبر كارثة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

انتفضوا” على الميليشات الطائفية والقَبَلِية من كل الأنواع. قولوا لهم سنّة وشيعة ومسيحيين ودروزاً وأكراداً وأتراكاً وإيرانيين وعربا: انتم لاتمثلونا ولا نريد لا أمنكم ولا سلاحكم ولا طبعاتكم الغرائزية والتدميرية للأديان والقوميات الفاشية. قولوا لهم نريد أدياناً روحانية تذكّرنا بأننا كلنا جزء من الكل الواحد، ولانريد أدياناً إيديولوجية مغلقة تحوّل الله تعالى من مصدر الوجود والخير الجمال والمحبة، إلى إله قَبَلي في خدمة أبالسة التكفير والإبادات الجماعية والتطهير العرقي. نريد وعياً صافياً جديداً نعيد معه الالتحام بأمنا الطبيعة ووحدة الوجود والبشر وكل المخلوقات، وليس لاوعياً طائفياً ومذهبياً غرائزياً بشعاً يقودنا باستمرار إلى أتون المحارق.

انتفضوا” على النخب السياسية، الحاكمة والمتطلعة إلى الحكم في كل المنطقة، التي تستخدم الدين والطائفة والمذهب، (ومعها الحركات الأصولية المتطرفة التي تستنسخها أجهزة مخابراتها)، مطية لحروب أهلية تمكّنها من مصادرة ثروات الشعوب ومصادر عيشها. قولوا لهم نريد حقوقنا في العمل والمعرفة والمساواة الاجتماعية والعيش الكريم. نريد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل. نريد الكرامة. نريد السلام والتعاون والتعاطف مع بعضنا البعض، لا الحروب والضغائن والتآكل الذاتي.

انتفضوا” لإنقاذ المكان الذي لابديل عنه لحياتكم وحياة أولادكم وأحفادكم: البيئة، التي تتعرّض الآن في كل المنطقة إلى تدمير منهجي شامل سيحيل معظمها قريباً إلى صحاري جدباء أو إلى مناطق غير قابلة للحياة، وسيحوّلنا جميعاً إلى أبرز “لاجئي بيئة” في كل العالم. النيل العظيم ملوّث من ألفه إلى الياء، والبحر بدأ زحفه على المناطق الزراعية التاريخية المصرية. تُربة سوريا ومياهها وأجواؤها تتراقص على شفير الانهيار، وكذا الأمر بالنسبة إلى العراق والأردن، وحتى إلى لبنان الذي بدأ يعاني من شح المياه على رغم أنه أرض الينابيع والانهار والثلوج. اليمن سيكون قريباً قاعاً صرصراً بلا مياه، ونواكشوط ستختفي قريباً أيضاً من الوجود بفعل زحف مياه البحر والصحراء الناجمين عن كوارث سياسات النظام الموريتاني الإيكولوجية. والمصير نفسه بانتظار مناطق شاسعة من منطقتي الخليج والمغرب العربيين.

IIII
لكن، كيف يمكن حقاً أن تتحو~ل “انتفضوا” من كلمة في الهواء إلى فعل على الأرض؟
الجواب جاهز: تجربة الربيع العربي أثبتت قدرة تيار الغالبية على التنظيم والانتظام في حلقات، تبدأ من وسائل الاتصال الاجتماعي على الانترنت وتنتهي بتحركات في الشارع في كل المنطقة. وهذا جهد لايستطيع القيام به سوى الشباب بالدرجة الأولى. وهناك أيضاً تجربة “احتلوا” في أميركا راهنا، التي بدأت هي الأخرى تنظّم نفسها بنجاح عبر الانترنت ضد وول ستريت والرأسمالية النيوليبرالية.
لقد وُلِدَ “الشارع السياسي” كقوة نافذة جديدة ومؤثرة في العالم، كما اكتشف عن حق زبغنيو بريجينسكي.

تخيلوا، مثلا، تحركاً لـ”الشارع السياسي” العربي في شكل تظاهرة مشتركة شيعية- سنّية في شوارع بغداد أو بيروت أو المنامة، أو تظاهرات مسيحية- إسلامية في سورية والعراق ولبنان ومصر، أو تحرك مشترك درزي وسنّي في جبل الدروز، وادرسوا تأثيرات ذلك على المناخات الفكرية والثقافية والاجتماعية الراهنة في المنطقة.

في اللحظة التي يتحول فيها “انتفضوا” إلى تيار منظّم في كل المنطقة ببرنامج موحد يتضمن الوعي الديني الروحاني الجديد، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والنضال لانقاذ البيئة قبل فوات الأوان، سيبدأ العد العكسي لنهاية تاريخ الوحوش الطائفية والتكفيرية (وكل تعصب ديني أو طائفي هو في الواقع تكفير)، وسينبلج تاريج جديد ورائع في المنطقة.

لكن هنا قد يبرز سؤال مهم: علامَ ستستند توجهات مثل هذا التيار المفترض، فيما الدول الراهنة تنهار، والهوية الوطنية تتحلل لصالح الهويات الفرعية (القاتلة)، والقوى الخارجية وإسرائيل تنشط لتقسيم المقسّم، على حد تعبير الصديق جميل مطر؟

السابق
خطف ماهر العماطوري في عرسال
التالي
الشتاء يبدّل معادلات المعركة… الخوف من عرسال 2