وفاءً وليس رثاءً لهاني فحص

لا أتذكر متى التقيت بالراحل هاني فحص أول مرة، لكنني أتذكر أنني شددت إليه الرحال من دون سابق معرفة ربما في اول زيارة لي إلى لبنان قبل عقد ونصف عقد من الزمن. وبعد تلك الزيارة، ظللت متواصلاً معه، أزوره عندما تسنح لي الفرصة ويسمح وقته باستقبالي. آخر مرة التقيته بها كانت قبل عامين وقد أجريت معه لقاءً مطولاً سجلته صوتياً من أجل الاستفادة منه في بحث حول دور الدين في الحياة السياسية كنت أعكف على إعداده.

لا يتكلف السيد هاني في كلامه ولا يجامل في أفكاره ودائماً ما يمزج الجد بالهزل وبذلك يكون الحديث معه ممتعاً وشيقاً إلى أبعد الحدود، وقد شعرت أحياناً بأنني أثقل عليه عندما أمضي ساعات طويلة في حديث متواصل حول الفكر والدين والثقافة على رغم أنه كان مسترسلاً ومستمتعاً بالحديث. وفي أكثر الأحيان كنت أجلب معي أصدقاء وكان يخدم ضيوفه بنفسه بنشاط وحيوية ولم يخطر ببالي أنه كان مريضاً لذلك صُدمت بوفاته.

معظم أصدقائه من الليبراليين العرب الحالمين بدولة عصرية تحفظ للجميع عيشاً كريماً بعيداً من الذل والأذى اللذين يشيعهما التعصب الديني، وكانوا يرون فيه عوناً على إقامة هذه الدولة، فوجود شخص مثله ينتمي إلى الدين يساعد على إعطائها شرعية ما لأن أكثر ما يعوق قيام الدولة العصرية في بلداننا هو معارضة الإسلاميين والمحافظين لها لأن فهمهم للدين يوهمهم بأنها تتعارض معه في وقت يلجأ الإسلاميون المطاردون في دولهم الإسلامية إلى الدول العلمانية العصرية في أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا سعياً وراء الحماية والعدالة والعيش الكريم المفقودة في بلدانهم.

تمتّع السيد هاني بثقافة واسعة، فهو دائماً يمطر محدثيه بأفكار وأسماء عربية وأجنبية غير مألوفة لمفكرين وفنانين وشعراء وفقهاء دين وقانون. لقد ألمّ بمعظم صنوف الثقافة والأدب العالميين، إضافة إلى التاريخ والشعر والسياسة والدين الذي تخصص به أثناء دراسته في النجف في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. زيه ديني شيعي، لكنه في الحقيقة أوسع مما يوحيه زيه بكثير، وبودي هنا أن أستعير الوصف البليغ للأستاذ حازم صاغيّة للسيد هاني «كأنه مسجون في ثوب رجل الدين»، لكنه في الحقيقة لم يكن مقيداً البتة.

سألته ذات يوم إن كان «أيٌ من أبنائه سيحذو حذوه في الدراسة الدينية كما هو معتاد بين رجال الدين»؟ أجابني مازجاً الجد بالمزاح: «السؤال هو كيف بقيت أنا رجل دين»! لكنه على الأكثر لم يجد تناقضاً في كونه رجل دين وفكر وأدب وثقافة ليبرالية علمانية في آن، لأنه لا يفتقر إلى الجرأة في قول أو فعل أي شيء يؤمن به.

قال لي في المرة الأخيرة أثناء حوارنا حول دور الدين في الحياة إن علينا أن نذهب الى النص الديني ونخاطبه «يا مولانا، إنك مقدس بنا، فإن لم تقبل أن تتكيف لضرورات الحياة فسوف نؤوّلك». فالسيد هاني يضع احترام الحياة وضروراتها قبل احترام النص الديني، بل وينفي حتى قدسية النص قائلاً إن النص مقدس فقط حينما يعتبره الآخرون مقدساً.

ويرى السيد هاني أن «الدولة تُفسِد الدين بقدر تدخلها فيه والدين يُفسِد الدولة بقدر تدخله فيها»، ما يعني أنه يؤمن إيماناً كاملاً بضرورة فصل الدين عن الدولة لئلا يفسد بعضهما بعضاً، فلا دين ينتج دولة ولا دولة تنتج ديناً.

سألته عن رأيه في ممارسة رجال الدين للسياسة وهل يؤثر زيهم الديني في الناخبين بحيث يُخِلّ بتكافؤ الفرص مع الآخرين، قال: «إنني مستعد أن أمارس نوعاً من القمع هنا»، أي أن على رجل الدين الراغب في ممارسة العمل السياسي أن يتخلى عن زيه الديني كي لا يُخِل بتكافؤ الفرص الذي تؤكده مبادئ الديموقراطية. هناك ناخبون يصوّتون للأشخاص بناء على منظرهم وكثيرون يفترضون أن من يرتدي الزي الديني هو أجدر بتمثيلهم من الآخرين باعتبار أنه ملتزم مبادئ الدين ومُثله العليا التي تحض على عمل الخير وخدمة الآخرين. لكن هذا التفضيل يدفع السياسيين إلى ارتداء الزي الديني بهدف الحصول على ثقة الناس، أي أنهم يرتدونه لأسباب سياسية وعندما تنتفي الحاجة ينضمون إلى كتل سياسية علمانية وقد تكررت هذه الحالة كثيراً في العراق.

كان شغوفاً بالشأن العراقي وعارفاً بكل تفاصيله ورجاله وكان يتحدث باللهجة العراقية التي يجيدها إجادة تامة ويصرح دائماً بأنه عراقي، ولا غرابة في ذلك، فالرجل أمضى سني شبابه في العراق كما فعل الكثير من رجال الدين الشيعة كالراحلين السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين اللذين ظلا متأثرين بالثقافة العراقية حتى النهاية.

كان دائماً يذكرني في جرأته وليبراليته برجل الدين العراقي الراحل مصطفى جمال الدين، فالمشتركات بينهما كثيرة، لكن تركيزهما مختلف، فبينما كان جمال الدين شاعراً عروبياً يدعو إلى دولة قومية علمانية كان فحص مفكراً ليبرالياً يدعو إلى دولة علمانية ليبرالية. ظاهرة رجال الدين الليبراليين أصبحت شائعة، فهناك كثيرون تبنوا الفكر الليبرالي العلماني من منطلقات إسلامية، وبعضهم، كالسيد طالب الرفاعي كان سياسياً حركياً يدعو إلى إقامة دولة إسلامية، تخلى عن الفكرة بعد حصول تغيير في فكرهم السياسي، وفي إيران أيضاً انتقل حسين موسوي وعلي أكبر محتشمي ومهدي كروبي من التشدد الديني إلى الليبرالية الإصلاحية بينما تخلى تونسيون ومصريون عن تشددهم الديني متبنين الليبرالية العلمانية.

لا أعتقد أن شخصية هاني فحص ستتكرر، فالموقع المرموق الذي بلغه بين المفكرين العرب ممن عبروا الحدود الطائفية والجغرافية والفكرية لم يبلغه إلا قليلون، فقد حظي بثقة معظم المفكرين والمثقفين والقادة في لبنان وفلسطين والعراق وإيران من إسلاميين وعلمانيين وقوميين، من دون أن يغير أياً من أفكاره. إنه موقع فريد حقاً سيبقى شاغراً ردحاً من الزمن.

السابق
ايران و«العالم الشيعي» ونموذج التعددية التراتبية
التالي
حوار مع هاني فحص..عن الشيعة وايران وغيفارا وفيروز