انتصار غزة.. إنتصار إستراتيجي للأمة

حجم وتراكم الإنتصارات التي حققتها غزة على العدو الصهيوني، وآخرها الإنتصار على عملية “الجرف الصامد” العدوانية في آب/أغسطس 2014، أبهر القاصي والداني، ويحق لأي مراقب علمي موضوعي لمجريات الأحداث سياسياً كان أم إقتصادياً أم إجتماعياً أم حقوقياً، أو محللاً إستراتيجياً، أن يضع هذا التحول في خانة الإنتصار الإستراتيجي للأمة وليس للشعب الفلسطيني فقط، فالمعركة ليست على غزة أو الضفة، أو حتى على فلسطين التاريخية، فالمعركة في الميزان الإستراتيجي معركة الوجود الفلسطيني ومعركة الرواية الفلسطينية مقابل الرواية الصهيونية التي اعتاد العالم لا سيما الغرب على سماعها من طرف واحد ويصدقها؛ فهناك مشروع صهيوني قائم على الزيف والكذب والأساطير، يتنكر لآلاف السنين من الوجود الفلسطيني في فلسطين، وان وجود هذا الكيان سابق للفلسطيني متذرعاً بقطة آثار التقطها من هنا أو هناك ودسَّها في التراب.. ولتلعب الدعوات لتكريس يهودية الدولة كإستحقاق رئيسي في عملية التسوية الدور الأبرز في فهم الآخر للرؤية الإسرائيلية في طرد من تبقى من الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة، واستبدالهم بيهود من مختلف دول العالم.. كإستكمال للمشروع الإحلالي.

أثارت انتصارات غزة حفيظة الآلاف من الكتاب والصحفيين والإعلاميين والنخب وصناع القرار في العالم للبحث في سر هذه المساحة الجغرافية التي لا تزيد عن 360 كلمتراً مربعاً ومحاصرةً منذ ثمانية سنوات، والمحتلة من الكيان الإسرائيلي منذ سبعة وأربعين عاماً، يزدحم فيها السكان ليصل إلى مليون وثمانمائة ألف فلسطيني، أكثر من ثلثيهم من اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم على أيدي العصابات الصهيونية إبان النكبة في العام 1948،.. ليشكل الفضاء الإعلامي المفتوح مساحة واسعة للرواية الفلسطينية كي تأخذ بُعدها العلمي والمنطقي في الطرح، وتحقيق المزيد من نقاط التضامن على المستوى العالمي.

في كل عدوان تقفز غزة إلى صدارة الأحداث العالمية، واستطاعت الست سنوات الأخيرة من كشف الوجه الحقيقي للإحتلال باستهدافه للمدنيين وللبنى التحتية من ماء وكهرباء وطرقات ودور عبادة ومؤسسات مجتمع مدني محلية وإقليمية ودولية وإستهداف مباشر لمنشئات وكالة الأونروا، في معارك غير متكافئة من ناحية العدة والعتاد، تُقصف بيوت القادة السياسيين والعسكريين، ويُستشهد أبناؤهم، كل هذا بهدف القضاء على الحاضنة الشعبية التي تستمد منها المقاومة أدائها واستمراريتها، لتتحول الحاضنة الشعبية الى خارج حدود جغرافيا الإستهداف المباشر في غزة لتلتف حولها الحالة الشعبية في الضفة، وكذلك في الداخل الفلسطيني المحتل علم 48 والشتات الفلسطيني، ومعهم شريحة واسعة من المتضامنين من العرب وغير العرب. يُصفق الفلسطينيون في تل الربيع “تل أبيب” مع كل صاروخ يسقط هناك وهم هناك، وتزغرد النسوة مع كل صاروخ يسقط في حيفا أو القدس..، والأطفال الفلسطينيون يتخذون من الصهاينة المختبئين في المجاري أدوات للملهاة وللسخرية، ومن بين الأشلاء والدمار والشهداء والجرحى والمعوقين تخرج غزة عن بكرة أبيها بشيبها وشبابها ونسائها وأطفالها لتحتفل بالنصر.. ليسقط جزء كبير من أسطورة الهيمنة ومساحة العربدة الصهيونية في المنطقة.

سيكتب التاريخ كيف تعطلت حركة طيران مطار اللد الدولي “بن غوريون” بأوامر من المقاومة، ولم يعاد فتحه إلا بأوامر من المقاومة، وسيسجل حركة هرب ولجوء المستوطنين من المستوطنات المحيطة بغزة ولم يعد مغتصبوها إليها إلا بعد أوامر المقاومة، ولم تفتح مدارس العدو إلا بأوامر المقاومة، وسيكتب عن الخسارة السياسية والعسكرية والإقتصادية وضرب موسم السياحة وعن الحرب النفسية والإعلامية التي مارستها المقاومة حتى قبل اللحظات الأخيرة من إعلان التهدئة، سيكتب التاريخ عن الأمن المفقود في الكيان وعن تزعزع الثقة بين المجتمع الإسرائيلي والسلطة والقيادة سواءً بين الأحزاب الإسرائيلية المتنافسة، أو بين أعضاء الحزب الواحد، سيكتب التاريخ عن إستراتيجية المقاومة التي تعدت الطرق التقليدية من البحر والبر والجو، فالحرب تحت الأرض والأنفاق وأهميتها لم يجري الحديث عنها إلا في الحرب العالمية الثانية، لتستخدمها المقاومة كأحد أدواتها الفاعلة في مواجهة الإحتلال، ستبقى مشاهد عملية موقع “ناحل عوز” العسكري وهدوء المقاومين ومقدرتهم على التسلل الى خلف خطوط العدو، وتكبيد جنود الإحتلال من الخسائر المادية والبشرية ما لا يعلمه إلا الله ثم المقاومين، سيكتب التاريخ عن تكامل الإيقاع والتنسيق بين كتائب المقاومة، واستخدام وسائل إتصال عجز الكيان الإسرائيلي عن كشفها حتى بقيت القنوات مفتوحة بين المقاومين وقياداتهم العسكرية والسياسية إلى آخر لحظة، وسيكتب عن حنكة وذكاء الوفد الفلسطيني الموحد للمفاوضات الذي أدار العملية بحكمة واقتدار.

انعكاس هذا المعطى لم يكن فقط على المستوى الفلسطيني الذي يتطلع الى النصر الكامل، فهو للأمة جمعاء ولكل من تضامن من الغرب الذين غصت شوارعهم بالمظاهرات والإبداع في أشكال التضامن ومقاطعة الاحتلال، وتكريس القضية الفلسطينية على صدارة الإهتمام الدولي، وفضح الإنتهاكات الإسرائيلية والتسبب بالمزيد من العزلة الدولية للكيان. نعم الفلسطينيون هم طليعة الحراك لإسترجاع فلسطين، واستطاع الكيان الإسرائيلي أن يؤثر إستراتيجياً ومنهجياً على الكثير من الأنظمة العربية والإسلامية، وتقدم خطوات في بناء تحالفات إلى حد التماهي في الرؤى للمستقبل، لكن إنتصار غزة تحت مظلة المقاومة والوحدة الوطنية الفلسطينية ممثلة بحكومة التوافق الوطني وانتزاع الحقوق من دولة الإحتلال وإعلان التهدئة بتاريخ 26/8/2014 بشروط المقاومة، سيؤسس لمرحلة جديدة يشتم منها الفلسطينيون في مخيمات الشتات واللجوء رائحة العودة والشراكة في تحرير فلسطين..

كل إحتلال إلى زوال والتجارب كثيرة إن كان الإحتلال الأمريكي لفييتنام أو الفرنسي للجزائر أو البريطاني للهند.. وتحت مظلة انتصارات غزة فمصير الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين لن يكون استثناء، وهذا ما سيعيد حقيقة الكرامة والقيم الإنسانية والعدالة الأممية إلى صدارة المجتمع الدولي، بعد محاسبة كل من تسبب بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني منذ مائة عام.. أما عن الأسرى وعملية التبادل فذاك نصر إستراتيجي آخر.

السابق
روبرت فورد: مساعدة واشنطن للأسد سيضاعف عدد المنضمين لـ’داعش’
التالي
بري دعا الى جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في 2 ايلول