فوبيا الموز وأثداء البقر

قديماً، كنا نسخر من العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، لأنه بعد إطاحته النظام الملكي وسيطرته على السلطة الليبية، أمر بمنع كل الكتب والمؤلفات التي تتحدث عن الملكية والنظام الملكي، فكان من جملة الكتب التي صادرها ومنعها، كتاب “مملكة النحل”. كان لدى القذافي الغرائبي فوبيا من الملكية، لم يحتمل حتى رمزية النحل المعروف بنشاطه وعسله، وهذه إشارة واضحة إلى سذاجة الرقابة وتهورها في نظرتها الاعتباطية والفوضوية والتعسفية إلى الأمور الثقافية والسياسية والجنسية.

تعتبر الرقابة عندما تمنع كتاباً معارضاً أو مختلفاً، أنها تجتث ثقافته من التاريخ والوجود والزمن، وتعيش الطمأنينة دونه. مارس القذافي وحشية واعتباطية في حكمه، حتى بات يصدَّق كل شيء يقال عنه، من الفتك بالمعارضين وخطفهم واختفائهم الى اغتصاب النساء والأطفال وتجميع الثروات الخيالية وإقامة المشاريع الهذيانية مثل النهر العظيم، واستعمال اللغة الفظة والساقطة. لم نستغرب أي شيء في مسيرة القذافي، فقد كان نموذجاً فاقعاً من نماذج الطغاة الذين يجمعون التناقضات في شخصية واحدة.
ليست الرقابة الساذجة من علامات القذافي وحده، فهناك أنماط كثيرة من الرقابات العربية والإيديولوجية المثيرة للضحك والتهكم، تحتاج إلى مجلدات للحديث عنها، وخصوصاً في البلدان التي تعيش في ظل النظام البطريركي الذي يدّعي برقابته أنه أكثر فهماً ورشداً من المواطن العادي، أو ربما ينظر إليه نظرة احتقار وازدراء.
ما ذكرناه آنفاً مجرد مقدمة للحديث عن “الداعشية” التي تجاوزت القذافية بأشواط وأميال. لكن الوحشية التي تثير التهكم، هي التي تجمع بينهما؛ بل إن ما تفعله “الداعشية” الآن يذكرنا بالكثير من الأنظمة الطغيانية والكثير من الحركات الثورية أو الثورات. لنقل بكل وضوح إن الثورات تبدأ بالمثاليات وتنتهي ربما بالحرب الأهلية أو الذبح والالغاء والمحو. “الثقافة الداعشية” القائمة على الجهل، هي في ظن أصحابها “ثورة”. بالطبع هي ليست ثورة. إنها شكل من أشكال العصر الحجري، لكن أفعالها تشبه أفعال الثورات المشينة، وهي باتت رديفة الذبح في العالم.
كان القذافي نموذجاً سيئاً في كل شيء، من خطبه الى ثيابه. مع ذلك احتل المشهد الإعلامي على مدى عقود. الآن، يحتل “داعش” المتوحش المشهد الإعلامي في كل شيء. يكفي أن يلعب “الداعشي” كرة القدم، حتى نجد الكاميرا تركز عليه وتنقل رأيه في اللعبة. نحن أمام ظاهرة تتحدى العصر ومسار الحياة من خلال العودة الى الأفكار الجاهلية. فكل ما له علاقة بالحياة والترفيه ممنوع في دولة “داعش”، وهذا يجعلنا في مرحلة المبكي المضحك. لنتخيل أن صفحات الـ”فايسبوك” تزخر بالخبريات “الداعشية”. كل سلوك داعشي بات موضع اهتمام وتغطية، من طرق القتل والدفن الى تناول الشوكولا. “الداعشيون” هم المغول الجدد، ولهم نجومهم. لكن النجومية هنا لا يبحث أصحابها عن الترفيه بل جل اهتمامها القسوة والتوحش والتسابق الى القتل. “داعش” لديه فوبيا من كل شيء. “لا نحب الحياة السعيدة ولا الرحلات”، قال أحد “الداعشيين” في فيلم وثائقي صوِّر بطريقة سرية. تكفي هذه العبارة لنعرف النظرة العدمية “الداعشية” الى الحياة كلها. “الداعشيون”، بحسب توجهاتهم الخطيرة، كلما “تقربوا” من الله ازداد عبوسهم في الحياة التي يعتبرونها أمراً عابراً ولا ينبغي أن يكون المرء سعيداً فيها، بل ينبغي أن يتعبد لربه في انتظار الحياة الأخرى. هم يزدرون السعادة والحياة وكل شيء على هذه الأرض، لذا نجد مجموعة من مقاتلي “داعش” وهي تنشد: “حور الجنان تنادي سجِّلني استشهادي”.
ربما تكون الحور هي المعضلة الكبرى. كل الهلاك على الأرض في سبيل الحصول على الحور، سواء من الغزوات البربرية والجلد والاعدامات والعمليات الانتحارية والنحر.
“الداعشية” هي الوحش الذي ربّته الأنظمة الدولية وزرعت له أنياباً حادة ونفخت فيه كثيراً، فضخمته إلى حد بات يخيف ويرعب. تدرك الأنظمة أنه فزاعة، وأنه مجرد نمر من ورق، لكنها تستعمله بأسلوب يجعله الوحش الضاري الذي يساهم الاعلام بقوة في إرساء سطوته. بات التنظيم “الداعشي” يمارس جحيمه. فعدا مطالبته الصحافيين بمبايعة الرقابة وتنفيذ ما يطلبه منهم وما يريده الخليفة وعسسه ومرتزقته، أجبر “داعش” أصحاب المحال التجارية في مدينة الموصل على وضع الحجاب على وجوه عارضات الملابس “المانيكان”، بحجة أنّ التماثيل التي تصور هيئة الإنسان بشكل كامل حرام. الدم حرام في عرف “داعش”، أما نحر الرؤوس فحلال وبات له “نجومه” الذين يتباهون بأفعالهم قبالة الكاميرا. خذوا الطالب المصري أبو سلمة يكن الذي انتقل من مدرسة الليسيه ومطاردة الروسيات إلى حمل الساطور والتقاط الصور مع الرأس المقطوع، وهناك المهاجر اللبناني الأصل أبو مصعب الأوسترالي الذي يحمل رأسين ويبتسم للكاميرا كما لو أنه حقق إنجازاً رياضيا أو انسانياً. وحشيته لم تمنعه من الابتسام.
السلوكيات “الداعشية” من الرقابة والأفعال الشنيعة تبلغ حداً من الوحشية حيناً، والطرافة حيناً، بحيث يصعب تصديقها. هي أقرب إلى الأساطير والحكايات التوراتية، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالمجازر وأساليب القتل.
“الزعيم” الكوري الشمالي “التهكمي” يأمر كل الرجال بالاقتداء بقصة شعره كأنه النبي أو الإله. وفي الدولة “الداعشية” محال الحلاقين تقفل بحجة أنها تخالف “قصة الشعر الشرعية”، في محاولة لمنع السكان من قص شعر الرأس أو الذقن لما فيه من “تشبّه بالكفار”. ويمنع “داعش” الدخان والنارجيلة في جميع أماكن سيطرته، كما يمنع أطباء النساء من ممارسة عملهم. على نحو ما أمر ماو تسي تونغ في نقل أبناء المدن الى الريف في الصين، منع تنظيم “داعش” مهنة المحاماة وأوقف جميع محامي مدينة الرقة عن ممارسة عملهم، وكفّر كل من يقوم بها وجاء في بيانه حول هذه المهنة، “إننا نحكم بشرع الله فقط”.
الأنكى من ذلك كله، كانت الفتوى “الداعشية” التي أمرت المزارعين في مدينة الرقة السورية بتحجيب أثداء البقر لأنها تثير “الفتنة”. هذه الفتوى كانت لتقول أحوال الثقافة “الداعشية” وسياسة عناصرها. هكذا تعيش بعض التنظيمات الدينية والايديولوجية الفوبيا من الأشياء، من مملكة النحل إلى الموز وأثداء البقر. بمعنى انها لا يخاف من الفكر الإنساني فحسب، بل من الحشرات والأشجار والحيوانات.

فوضى الميديا
دفعت “الداعشية” كل الأمور الى الفوضى القصوى. سلوكها الوحشي والبربري والمغولي والنازي، جعل جسمها “لبّيساً” في كل شيء يقال عنها، سواء فعلته أم لم تفعله. التبست الأمور على نحو فادح مع “داعش”. بعض الإعلام وجد ملاذه في فبركة الأخبار المثيرة عن هذا التنظيم، وخصوصاً تلك التي تتعلق بالقتل والنساء. كأن “الداعشية” تمارس “سحرها” على الميديا مثل فيلم جديد. دموية جهاديي تنظيم “الدولة الإسلامية” مع أعدائهم ليست بحاجة إلى تفسير أو سند، إلا أن العديد من الصور والمقاطع التي يتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في الإعلام، والتي قُدِّمت على أنها قرائن وبراهين على سلوك هؤلاء، يتبين أنها محوّرة أو متلاعب فيها. منها صور الجواري التي قيل انها صوِّرت في الموصل وتبين أنها من صور عاشوراء في جنوب لبنان، وصور الاعدامات الميدانية وفيديو الزواج بالإكراه وخبر الختان، هذه الأمور الزائفة جعلت مناصري “داعش” يقولون ان كل شيء يقال عن تنظيمهم مؤامرة، وجعلت الخائفين من “داعش” يزيدون من خوفهم ويحولون القتيل الى مجزرة.
لا شيء غريباً على “الداعشية”، لكن المحنة أننا في مرحلة حرب تكاد تكون إعلامية قبل أن تكون عسكرية، في مرحلة يمكن لحساب على “تويتر” أن يصنع حربا أهلية كما حصل مع حساب “لواء أحرار السنة”.
“الداعشية” ليست ظاهرة اسلاموية أو جهادية، بل هي ظاهرة سائدة قبل الإسلام وقبل الجهاد، منذ أقدم العصور وفي كل الأديان والسياسات والقوميات. لكل دين “داعشه”، سواء اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي أو حتى الوثني والبوذي، وصولا الى الأنظمة الحديثة والعلمانية. لنتخيل ماذا فعل الإسلام ببني
قريظة؟ وماذا فعل المسيحيون الاسبان بالهنود الحمر في أميركا؟ وماذا فعل ماو تسي تونغ بمعارضيه الصينيين؟ يكفي قراءة كتاب جوني هوليداي عن ماو لنشعر بالتقزز. وماذا فعل ستالين بالروس والشيشان؟ ألم يكن تاريخاً أسود؟! لنتذكر كيف أفرغ الخمير الحمر المدن من سكانها مرسلين إياهم الى معسكرات العمل الجماعي ليموتوا هناك بالملايين. لنتذكر السحل في الصراع بين العروبيين والشيوعيين في العراق أيام عبد الكريم قاسم. ثمة كتب تتحدث عن مجازر ارتكبها الاكراد بعضهم ضد البعض الآخر في إطار الصراع على السلطة. براميل بشار الأسد لا تقل فتكاً عن سواطير “داعش”، وسجونه الفتاكة أشد ضراوة من أساليب الصلب “الداعشية”. هي مرحلة تحتاج إلى النجاة من كل “الدواعش” و”الحوالش”.

السابق
الامم المتحدة حذرت من مذبحة في بلدة امرلي المحاصرة
التالي
العدو يسابق مساري التهدئة بالغارات