مؤتمر ’السلم والاعتدال’ خطوة في الاتجاه الصحيح

في مدى ثلاثة أيّام (16-19 تموز)، عقد في مدينة اسطنبول، مؤتمر بعنوان «مبادرة علماء العالم الإسلامي إلى تبنّي السلم والاعتدال والحسّ السليم». هذا العنوان يصوّب في اتّجاه الميدان، عبر الإشارة إلى فقدان السلم بين المسلمين في أكثر من بلدٍ عربيّ، وفي اتّجاه الخطاب، عبر الإشارة إلى سيادة الخطاب الحادّ والمتطرّف والتكفير، وفي اتّجاه الفطرة، عبر الإشارة إلى الحسّ السليم الذي حلّ مكانه التشوّه والتشويه المطلق لكلّ ما هو إنسانيّ وأخلاقيّ. هذه الإشارة ثلاثيّة الأبعاد دقيقة ومهمّة في آنٍ معًا، لأنّها لا تركّز على عاملٍ واحدٍ، ويُمكنها أن تشكّل أهدافًا عامّة لعمل اللجنة المنبثقة عن المؤتمر، والتي تضمّ شخصيّات متنوّعة الأطياف.

ممّا لا شكّ فيه أنّ العالم الإسلامي اليوم في أزمة، وما سمعناه من العلماء المؤتمرين أنّه يكاد لا يخلو بلدٌ إسلاميّ من أزمة داخليّة مرتبطة بهذه العناوين الثلاثة، وهذا في حدّ ذاته يدلّ على أنّ البنية المجتمعيّة الإسلاميّة في أزمة حقيقيّة، في الوقت الذي يؤكّد فيه أنّ هناك مخطّطًا خارجيًّا جهنّميًّا، تمّ من خلاله تفعيل كلّ عناصر التناقض الداخلي الذي لم يعرْه المسلمون خلال تاريخهم ما يكفي من الاهتمام وإعادة النظر بهدف التخفيف من حدّته.
والذي يبدو واضحًا أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أنّ المشكلة لا ترتبط بالبُعد الأمنيّ والسياسيّ فحسب، وإنّما أصبحت المسألة مرتبطة بالفكري والثقافي، وهي مسألة تهدّد الإسلام في صورته وبنيته، سواء في ذهن الآخر، أو في أذهان الأجيال الإسلاميّة التي يُمكن أن تفقد الثقة بإسلامٍ قادر على مواكبة الحياة وصنع الحضارة، بما يعنيه ذلك من سقوط أمام أيّ طروحات أخرى قد تصل إلى حدّ الإلحاد والتنكّر لكلّ ما هو دين ودينيّ!
قد لا نستطيع أن نعزل المؤتمر عن أيّ أهداف سياسيّة توخّاها منظّمون، لكنّ من المهمّ أن نرى أنّ المؤتمر يحمّل مسؤوليّة للعلماء، بوصفهم مؤثّرين أساسيّين في المشهد الفكري الديني والثقافي، في وعي أهمّية العناوين التي يطرحها المؤتمر، وخطورة استمرار ما يناقضها على الأرض، لا سيّما من الجماعات التي تتحرّك بسطحيّة الشعارات الإسلامية دونما وعي لمضمونها وآليّات تطبيقها، بما يجعل سلوكها يصبّ في ضرب الإسلام باسم الدعوة إليه.
ومن هنا، طرح المؤتمر ضرورة إعادة تعريف كثير من المصطلحات، وأهمّها مصطلح الجهاد الذي ابتُذل كثيرًا في الممارسة وفقد بُعده الحضاريّ، ورُبط بمصطلح الإرهاب من دون أن يتمّ تعريف هذا الأخير أيضًا، إضافة إلى ضرورة إعادة النظر بمناهج التعليم الديني في نُظمنا التعليمية بعامّة.
في كلّ الأحوال، يبدو المسار طويلًا، والمؤتمر يمكن أن يشكّل خطوة مهمّة في هذا الاتّجاه، كونه يعكس إرادة دينية وسياسية في دولة ذات تأثير موصوف في المنطقة، والذي يتناغم مع إرادة دينية وسياسية في دولة ذات تأثير كذلك، وهي إيران، في هذه اللحظة الحرجة والحسّاسة من تاريخ أمّتنا.
ويمكننا أن نشير هنا إلى عدّة نقاط نحسبُها أساسيّة في تفعيل العمل في اتّجاه العناوين التي وضعها المؤتمر:
أوّلًا: تفعيل العمل البحثي في التعرّف على الواقع، بعيدًا عن الارتجال والتعميم الذي قد يولّد تصوّرات غير واقعيّة، وبالتالي يدفع باتجاه مواقف لا تساهم في الحل، لا سيّما لدى علماء الدين الذين قد يساهم خطابهم التعميمي في خلق صور مضخّمة عن الواقع. من المفيد أن يكون العقل العملي المرتكز على الإحصاءات المحايدة والدقيقة واكتشاف الواقع من خلال جمع المعطيات وتحليلها علميًّا للوصول إلى وضع تصوّرات دقيقة، ومن ثمّ البناء عليها في وضع أهداف واستراتيجيّات للحلّ.
ثانيًا: أن تقوم الدول ذات النفوذ، ولا سيّما تركيا وإيران، بتشجيع مكوّنات كلّ بلدٍ عربي وإسلاميّ ومساعدتها في بلورة أهداف واقعيّة قياسًا بالظروف ومستوى التعقيد، ضمن ثابت أساس وهو الحفاظ على وحدة الكيانات السياسيّة القائمة وتعزيز فرص المشاركة للمكوّنات المختلفة في بناء البلد ضمن عمليّة سياسيّة خاضعة لمعايير وقواعد واضحة متّفق عليها، وتمكين تلك المكوّنات من اكتساب الكفاءة في إدارة شؤونها الداخليّة في ما بينها. ولعلّ هذه النقطة تتطلّب الخروج من إطار العناوين العامّة، كالحوار والوحدة وغيرهما، إلى ورش العمل التدريبيّة على آليّات الاختلاف وإدارة الحوار ومنهج الوحدة وغير ذلك من الأمور المرتبطة بالبُعد العملي للأمور.
ثالثًا: إعادة إنتاج الحسّ الإسلامي تجاه قضيّة تحرير فلسطين، وجعل ذلك فرصة لإيجاد مشروع تحرّري يصوّب نحو عدوّ خارجي، ريثما تنضج الظروف الموضوعيّة لإدارة متوازنة وجادّة للاختلافات الداخليّة. ولعلّ في إمكاننا هنا أن نُشير إلى أنّ الأزمات الداخليّة التي اجتاحت كلّ بلدٍ في العالم الإسلامي قد أبعدت فلسطين كقضيّة عن الخطاب العام حتّى لرجال الدين، وفي الوقت الذي نعتبر فيه أنّه لا يصحّ نسيان كلّ تلك الأزمات ليكون عنوان قضيّة فلسطين أداة استغلال للمزيد من التخلّف والظلم، فإنّه لا يصحّ بحال أن يتمّ الاستغراق في الأزمات الداخليّة بعيدًا عن قضيّة فلسطين، لأنّ لتلك الأزمات دورًا في ضرب تلك القضيّة، كما أنّ القضيّة تلعبُ دورًا في التسريع في وضع الحلول لتلك الأزمات.
رابعًا: تعزيز المناخ العلمي الذي يأخذ بأسباب الفكر الحرّ والاجتهاد بعيدًا عن الأدلجة التي تغلق كلّ إطار على نتاجه في فترة زمنيّة محدّدة وتبعده عن التجدّد ضمن التحدّيات الراهنة، وذلك في جوّ من الانفتاح على كلّ النتاج المعرفي الإسلامي، دونما تمييز بين نتاج مذهبٍ وآخر، في جوّ من النقد العلمي الموضوعي بعيدًا عن آليّات الجدل والإفحام وتسجيل النقاط.
خامسًا: إضافة إلى إطلاق موقف واضحّ ضدّ منهج التكفير والقتل لمجرّد الاختلاف، يجب العمل على دراسة العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصاديّة والفكريّة وغيرها التي تساهم في إيجاد البيئة المؤاتية لتبلور الاتجاه التكفيري الإقصائيّ للآخر، ووضع الخطط بهدف تعديل النتاج عبر تعديل العوامل الفاعلة والمؤثّرة.

 

السابق
عين الحلوة: مياه الشرب ملوثة
التالي
بالصور.. ’عيد الفطر’ حول العالم