الجهاد المقدس على «فيسبوك»

خلال الأيام الأخيرة ازدحم موقع “فيسبوك” الى حد الانفجار تعليقا وتعقيبا وإبداعا, إزاء ما يجري من أحداث في الشرق الأوسط. فكل على ما يبدو يغني على ليلاه وهذا مثل ينطبق بدقة على ساحة “فيسبوك”. فلكل ما يغني له أو يبكي عليه.
قليلا ما أشارك في التعليقات على هذا الموقع الالكتروني ولكني كثيرا ما أتابع وأدقق فيما يكتبه اصدقاء ال¯ “فيسبوك” وهم يزيدون عن ستمئة.
في المتابعة ال¯ “فيسبوك” نجد بعض الأصدقاء في واد والعالم في واد آخر. فتراه لا يزال, برغم الأحداث الدموية الكبرى في المنطقة, يرسل المضحكات والطرائف ودعوات للمشاركة في الألعاب, أو المسليات, وآخرون يرسلون صور مناسباتهم الخاصة, وكأنهم يقولون للعالم اتركونا نعيش حياتنا بطريقتنا.
الأحداث الجارية في المنطقة ومن خلال التعليقات عليها عبر “فيسبوك” والمشاركات المختلفة والمتناقضة كشفت الكثير من مكنونات النفوس. فإلى جانب الفريق الذي لا يريد أن يسجل أي موقف قد يحسب عليه مكتفيا بالتفرج والنأي بالنفس, هناك الفريق الذي اعتبر الأمر معركته التي كان ينتظرها, وجهاده المقدس الذي يتمنى الاستشهاد فيه. فترى هذا الفريق يرسل في الساعة الواحدة أكثر من عشرة “بوستات” مختلفة لكنها في مجال واحد وقضية واحدة. في متابعة “”بوستات”” “فيسبوك” هذا الأسبوع نجد عودة قوية إلى الغيبيات والأدعية والتمنيات, وثمة عودة قوية لفكرة المؤامرة الخفية التي تستهدف الوطن العربي ودينه ومقدساته. رأيت هذا الأسبوع على “فيسبوك” أدعية وأحاديث وآيات كأنما نسمعها ونراها للمرة الأولى وكأنها نزلت اليوم مثلما قال عمر “رضي الله عنه”.
في مشاركات “فيسبوك” تجد شراكة غير منظورة بين مجاميع من الأشخاص تجمع بينهم الأحداث, وثمة اخرون فرقتهم الأحداث نفسها. فما أن يوضع “بوست” جديد حتى تنهال التعليقات والتعقيبات عليه من جهات الأرض الأربع, وكلها تعليقات تثني وتشجع وتؤيد وتعزز لان الموقف لا يسمح باي معارضة, وأي مناقضة وأي رأي آخر مخالف. لكن مع ذلك فهناك البعض مما يضع “بوستات” ذات توجه مخالف لكنها سرعان ما تلاقي الردود القاسية التي قد تتسبب بفسخ الصداقة “الفيسبوكية” وإخراج المخالف من ملة هذه الوسيلة التواصلية.
الأسبوعان الأخيران تميزا بحدثين كبيرين لا يقل أحدهما عن الآخر خطورة وإرهابا وقسوة وبشاعة وعدوانا وشراسة وهمجية. الأول جريمة “داعش” بحق المسيحيين العراقيين والثاني جريمة إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة. لكن جمهور ال¯”فيسبوك” على ما يبدو انقسم إلى جبهتين ولن نتحدث عن الجبهة الثالثة التي اختارت الناي بالنفس أو الجبهة الرابعة التي اختارت أن تغرد خارج السرب.
الملفت أن كل جبهة من الجبهتين الأولى والثانية تتجاهل كل منهما اهتمام الجبهة الأخرى. فالجبهة المهتمة بمتابعة جريمة “داعش” والتعليق عليها تبدو لها قضية الجبهة الأخرى غير موجودة والأمر نفسه ينطبق على الجبهة الثانية. فمع كل الغضب الذي تصبه احدى الجبهتين تجاه عدوها فإنها بالقدر نفسه تنأى بنفسها عن قضية الجبهة الأخرى. وهذا التجاهل من قبل كل فريق لقضية الفريق الآخر لا يبشر بخير بل يجسد بؤس الاستقطاب وبؤس الطائفية وبؤس الأنانية, استقطاب ستكون نتائجه وبالا وخرابا. مع انه في كل جبهة من الجبهتين مثقفون ومتعلمون وأساتذة وصحافيون ورجال مجتمع لكنهم مع ذلك ولغرض ما يكيلون بمكيالين وينظرون بمنظارين وفي اتجاهين مضادين كل للآخر. وبطبيعة الحال فكل يرى الصورة كما يريد أن يراها لا كما هي بالفعل. وكل شخص يرى في أي “بوست” التأويل الذي يعجبه.
جميل جدا أن نتعاطف مع الضحايا وهذا تعبير عن إنسانيتنا بالوقوف معهم ضد المعتدين وهذا امر لا خلاف عليه رغم أي اختلافات سياسية. من الغريب حقا, ومع كل التضامن الممكن مع الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان والوقوف إلى جانبه ضد أعمال الإبادة التي يتعرض لها, من الغريب أن يستيقظ الضمير لنصرة ضحايا العدوان الإسرائيلي ولا يتحرك هذا الضمير إزاء عشرات الآلاف من ضحايا الإرهاب في العراق وسورية وليبيا, ونزيف الدم العراقي المستمر منذ عشر سنوات والدم السوري منذ ثلاث سنوات وأكثر لا يثيران أي اهتمام أو أي تعاطف وكأن الضحايا مجرد كائنات من كوكب آخر. لم نسمع أي استنكار أو استهجان أو إدانة لا من مثقفين ولا شيوخ ولا سياسيين ولا إعلاميين. حتى ليؤمن المرء أن مثل السكوت علامة الرضا ينطبق على هذه الحال. حال من الازدواجية في المواقف والتلون في العواطف سيؤدي إلى ما هو أسوأ.
أخيرا, في مراقبة تعليقات ال¯ “فيسبوك” في الأسبوعين الأخيرين نرى ارتفاعا كبيرا في نسبة الذين يعتقدون بالمؤامرة. وكان العالم مهتم أصلا بهذه الأمة التي لم تسهم في الألف سنة الماضية باي إسهام حضاري تستفيد منه الإنسانية. نجد تعليقات بشأن “داعش” أنها صنيعة المخابرات الصهيونية والأميركية وإنها مجرد أداة بيد الغرب الذي لا يريد الخير لامتنا. وفي المقابل نجد عقلية مشابهة عند حديث البعض عن العدوان على غزة فتراهم يتحدثون عن مؤامرات تشترك فيها أنظمة عربية من اجل أهداف تخدم مصالحها.
قد يكون هذا التوجه نابعا من باب الاستنكار الشديد والعجز عن القيام بأي فعل تجاه ما يجري وهو ما يدفع البعض لإراحة ضميره بنسبة الفعل الذي لا يستطيع رده أو الوقوف بوجهه لمؤامرة أو شبكة مؤامرات فيزيل همه ويلغي دوره ويتابع حياته في العسل من دون أي حرج.
مجتمع “فيسبوك” مجتمع عجيب وفيه من الغرابة ما قد يدفع المرء الى اغلاق حسابه ومغادرة صفحته والعيش بهدوء عقلي ومتابعة العالم عبر مصادر

السابق
بانتظار الحكومة السورية المؤقتة!
التالي
لماذا ينضم الشباب إلى «داعش»؟!