مسيحيو الشرق…«كِبْش مَحرَقة»

هو “نداءٌ انساني” توجّه به المطران ميشال قصارجي بحرقة ” لكل المسؤولين والمحسنين ورجال الأعمال في لبنان” لاحتضان المهجّرين المسيحيين من العراق، ممن توافدوا وما زالوا يتوافدون إلى لبنان”.

من لهجته تلمس الكثير من الأسف والخوف على مستقبل المسيحيين في الشرق، في وقت يكتفي المعنيون بالشجب والاستنكار. وحدها الكنيسة يقع على كاهلها ما لا طاقة لها به، في وقت تتجاهل المنظمات والجهات الدولية ما يجري في العراق، وتتنصّل من مسؤولياتها.

لم تقلّ صدمة المطران سمير مظلوم عن المطران قصارجي، فباللوعة نفسها والصوت نفسه دعا مظلوم “لعدم السكوت عن هذا الشواذ المسمّى بداعش، والذي سيلحق أذاه الجميع وليس فقط المسيحيين”، مبدياً خوفه على مسيحيي لبنان في ظل الغموض الذي يلف الوجود الداعشي في لبنان.

الجزية…القتل…أو الدخول في الإسلام، شروطٌ ثلاثة يتهيّأ لقارئها أنها عناوين أساسية في مسلسلٍ تاريخيّ يُعرض على مسرح الخيال، لكن الواقع يقول غير ذلك، فهي شروطٌ تطبّق اليوم على مسرح الحياة في القرن الواحد والعشرين من الميلاد، بحقّ مسيحيي الموصل في العراق.
خمسةٌ وعشرون ألف مسيحي، قُلِعوا من جذورهم بقوّة سيوف الحقد والتطرّف، ومضوا كما “مسيحهم”، حاملين صليبهم على أكتافٍ هدّها هول المصاب، تاركين خلفهم مدينةً انقلبت معالمها ما إن سيطر عليها تنظيم “دولة الإسلام في العراق والشام”. غادرت أجسادهم الكنائس وبقيت أرواحهم تحرس بحزنٍ وألمٍ مريَميّ قببها التي تشهد على جريمة الكفر التي بدّلت صلبانها المقدّسة إلى أعلام سوداء استمدّت ظلمتها من قلوب الدواعش.

انتشر في اليومين الأخيرين حرف “النون” باللغة العربية على موقعي التواصل الاجتماعي فايسبوك وتويتر في لبنان، حيث عمد الكثيرون من مختلف الطوائف إلى تغيير صورة حسابهم الخاصة واستبدالها بحرف “النون”. تضامناً مع مسيحيي العراق ومواجهة سيف التكفير الداعشي الذي قام بكتابة حرف “النون” للدلالة على “نصراني” على منزل كل مسيحي في الموصل لتمييزهم عن المسلمين.
في الوقت الذي لم نرَ أي تظاهرات ووقفات لبنانية لترفع الصوت المتضامن مع مسيحيي الموصل، والمناهض للأعمال اللاإنسانية التي يمارسها تنظيم داعش. فلماذا الاكتفاء بالاستنكارات الشفوية والافتراضية في ظلّ الخطر الذي يهدّد، ليس فقط المسيحيين، بل كافة الطوائف والمذاهب الأخرى.
تهديد مباشر حتى في لبنان
في هذا السياقّ يؤكّد لـ”البلد”، النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم ، “ما قام به تنظيم داعش بحق المسيحيين في الموصل عمل همجي ومُستهجن لا يحترم حقوق الانسان، فيه اضطهاد واضح لناس أبرياء ليس لهم أي ذنب في كل ما يحصل في العراق. وهو عمل موجّه ضد حرية الاعتقاد وحرية التفكير، صادر عن فكرٍ إلغائيّ متحجّر يرفض الآخر”.
يضيف المطران مظلوم “ما يحصل في العراق يهدّد الوجود المسيحي في الشرق الأوسط بشكل مباشر، ويجب ألا يسكت أحد عنه لأن هذا الشواذ سيطبّق على الجميع وليس فقط على المسيحيين”.
ورأى أن “داعش تشكل خطراً حقيقياً على مسيحيي لبنان، لأن لا أحد يعلم كم داعشيّ متغلغل بين المليون ونصف نازح سوري، وهنا تقع المسؤولية على الدولة”. موضّحاً “لا نقول هذا لتخويف الناس، ولكن لتوعية المسؤولين على دورهم تجاه هذا الخطر”.
ننتظر المبادرة من المسلمين
وعن عدم تنفيذ وقفة تضامنية في لبنان مع مسيحيي الموصل، يقول النائب البطريركي العام : “نحن كمسيحيين نُعتبر مستهدفين، لذلك ننتظر من المسلمين أن يأخذوا هذه المبادرة، وننتظر منهم مواقف واضحة تعبّر عن رفضهم للجرائم التي تُرتكب بحق المسيحيين تحت غطاء الإسلام”.
بداية نهاية المسيحيين
وفي ظلّ هذا التهجير الممنهج والقبَلي ضد حمَلَة السلام والحضارة، ما مصير المسيحيين في العراق، وهل هي بداية نهاية المسيحيين في الشرق الأوسط على وقع التطرّف، وما الذي فعلته الكنيسة لمواجهة سياسة التطهير هذه، وما دور الفاتيكان والمنظمات الدولية والفعاليات الروحية تجاه مئات آلاف المهجّرين من المسيحيين العراقيين.
نداء انسانيّ
“أوجّه نداء إنسانيا عبر جريدة “البلد” لكل المسؤولين في لبنان والخيّرين ورجال الأعمال، ولكل انسان مُقتدِر ويملك الحد الأدنى من الشفقة والرحمة والانسانية في قلبه. أقول لهم، هؤلاء الناس يحتاجون لكل شيء من الألف إلى الياء، من لقمة الخبز والمأوى حتى الماء والكهرباء والمدارس والتطبيب، فلا تتأخروا أكثر عن تقديم المساعدة لهذا الشعب العراقي المسكين، الطيّب، المقلوع من جذوره بحدّ السيف”.
هو نداءٌ انسانيّ وجهه المطران ميشال قصارجي عبر جريدة “البلد” متمنياً أن يصل لكلّ الخيّرين في لبنان.
الأمم المتحدة “لا برنامج دعم للمسيحيين”
قصارجي وجّه نداءه هذا، لأن هناك قسما كبيرا من مسيحيي العراق أتى وما زال يأتي إلى لبنان. بينما الدولة عاجزة عن القيام بهم، والكنيسة تقوم بواجباتها التي تسمح بها إمكاناتها المحدودة، بينما الجهات المعنية المختصّة تغضّ النظر عن مئات الآلاف من مسيحيي العراق المهجّرين.
وأكّد مطران الكلدان في لبنان في حديثٍ لـ”البلد” أنه في اتصالٍ له مع الأمم المتحدة، سألهم “لماذا هذا التأخير في مساعدة المسيحيين المهجرين من العراق”، فقالوا له بالحرف الواحد: “إن برنامج دعم العراقيين توقّف، ونقوم اليوم بالعمل على برنامج مساعدة السوريين المهجّرين”.

وصمة عار على البشرية
وعن الوضع في العراق، قال قصارجي “الوضع مأسوي جداً في الموصل، ولم يحصل في تاريخ البشرية مثل هذا التطهير العِرقي البشع بحق المسيحيين، حيث يتم تخييرهم بين القتل أو الجزية أو اعتناق الاسلام، بطريقة لا يتقبلها عقل الانسان الطبيعي. وهم أصحاب حق وأرض، وأصحاب حضارة وسلام . وللأسف الشديد ما يحصل وصمة عار على البشرية جمعاء، وانحدار أخلاقي وجريمة حرب، والمؤسف والمُخزي أن الجميع يكتفي بالتنديد والشجب الذي لا يعطي للمهجّر لا قوت عيشه ولا سقفاً يأويه”.
داعش واليهود
ويضيف قصارجي “هناك دول معنية بالصراع القائم في العراق ومن مصلحتها تأجيج نار الفتنة، هي التي تقدم الدعم لداعش. فتنظيم داعش لا يتفرّق عن اليهود أبداً، فكما هجّر اليهود المسيحيين من مهد الديانة المسيحية فلسطين، تحاول داعش اليوم أن تجعل من العراق وسورية وغيرهما مشروع فلسطين ثانية خالية من المسيحيين، الذين أصبحو “فشّة خلق” في صراعات المنطقة”.
تخوّف مسيحي لبناني
واستنكر المطران قصارجي عدم وجود أي ردّات فعل في لبنان رغم حجم الكارثة، قائلاً: “أقلّها إيمانياً وإنسانياً الوقوف تضامناً مع مسيحيي العراق”، مشيراً إلى أن “هناك نوعاً من اللامبالاة في لبنان من قِبَل الجميع، حكومة وغير حكومة، ما يؤدي إلى تخوّف كبير من أن يكون مصير المسيحيين في لبنان كمصيرهم في سورية والعراق. بينما قياداتنا المسيحية تعيش في كوكب آخر، فعدم انتخاب رئيس للجمهورية حتى اليوم يساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتأزيم الوضع المسيحي في لبنان أيضاً”.
من سيّئ الى أسوأ
وفي سؤالٍ عن المصير الذي ينتظر مسيحيي العراق بشكل عام، ومسيحيي الشرق الأوسط بشكل خاص، أجاب قصارجي “لا رؤية واضحة لاتجاه الأمور، فهناك حالة من الخوف والهلع والانتظار، في الوقت الذي تسير فيه الأمور بشكلٍ متسارع من سيّئ إلى أسوأ، فخطورة الوضع تتطلب تدخّلاً مباشراً من الفاتيكان والدول الكبرى والأمم المتحدة لحل مشكلة الاضطهاد الذي يتعرّض له المسيحيون في الشرق الأوسط”. إذاً، مصيرٌ يفرض نفسه، هو انتظارٌ للمجهول، انتظارٌ جبله الواقع المرّ بملح الخوف والهلع الذي كبَس به المسيحيون جراحهم القديمة لتتخاوى مع شقيقاتها الجديدة الأشدّ ألماً. فما أجرأهم يا سيّدي المسيح على ممارسة جريمة الكفر تحت غطاء الدين، لا تسامحهم يا يسوع السلام فهم يعرفون جيّداً ما يفعلون.

السابق
اسرائيل وحماس في دائرة اليأس
التالي
والدة قتيل في حزب الله: «بعتوا ولادكن عا سوريا نحن عم نقاتل كفار»