إنضاج التسوية على نار بطيئة

هناك انطباعٌ عام بأنّ الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى إعادة ترتيب الاوضاع في منطقة الشرق الاوسط انطلاقاً من العراق ولكن على نار «داعش»، ما يعني أنّ إطفاء الحريق المشتعل في العراق لا يبدو قريباً جداً.
صحٌ أنّ زلزا الحاصل، ومحاصرته ومنع امتداده الى مناطق تُعتبر محرقة مثل العاصمة بغداد أو حتّى الى البلدان القريبة مثل الأردن، وربما تهديد الاستقرار الداخلي للسعودية.
لكنّ هذا شيء والقضاء على داعش شيء آخر. فعدا الشراكة العسكرية التي تطالب بها واشنطن من خلال المساعدة الجوية، فإنّ بنود التسوية لا بدّ أن تطاول شراكة سياسية على مستوى السلطة العراقية من خلال التوافق مع إيران على إعادة توزيع السلطة، وبطبيعة الحال الشراكة الاقتصادية والنفطية.

ولكن لماذا تستعجل واشنطن طالما أنّ ايران التي خسرت التواصل الجغرافي بينها وبين سوريا ولبنان بدأت تعاني من تحرّشات العناصر المتطرفة، ما أدّى الى مقتل ثلاثة من جنودها في وقت يكثر فيه الحديث عن أمن أهواز حيث تنتشر مجموعات سنّية.

ولماذا تستعجل واشنطن طالما أنّ السعودية تشعر بالخطر الاصولي المقبل. صحيح أنّ المملكة ساهمت لا بل رعَت «الانتفاضة السنّية» في العراق لكنّ انفلاش «داعش» داخل الفريق المنتفض، وتمدّدها في اتجاه الاردن يفتح شهية التغلغل داخل النسيج السعودي، ما يأخذ الأمور في منحى آخر.

وتحت شعار التّحذير من الخطر الكبير الذي تُمثّله «داعش» نجح وزير الخارجية الاميركي جون كيري في انتزاع موافقة ثمينة من السعودية على الدخول في تسوية سياسية في العراق من خلال حكومة وفاق وطني لن يكون رئيسها نوري المالكي ولا أياد العلاوي المحسوب على السعودية: «ليختاروا رئيساً آخر للحكومة غير نوري المالكي ونحن نسير».

طبعاً كان قد سبق ذلك تحرّك ناشط قام به السلطان قابوس بين طهران والرياض بتشجيع، لا بل بتكليفٍ أميركي، وأدّى غايته، وتبدو واشنطن مقتنعة أكثر فأكثر بأهمية الدور العماني في إزالة الألغام ما بين إيران والسعودية.

وأخذت السعودية من الاميركيين جائزة ترضية من خلال منح دعم مالي وعسكري للمعارضة السورية إضافة الى وعود بقرب استخدام مجموعات المعارضة، التي تولّى الجيش الاميركي تدريبها وتجهيزها في الاردن وقطر في الحرب السورية، ما سيعيد بعضاً من التوازن العسكري ويُرغم الرئيس السوري بشار الاسد على العودة الى طاولة المفاوضات في جنيف.

ولا تبدو واشنطن مستعجلة ايضاً لانها تفاهمت مع الاكراد على الحدود المرسومة لتحركهم في هذه المرحلة، اضافة الى قيامها بالخطوات المطلوبة لضمان أمن العرش الهاشمي في الاردن مع وصول الخبراء المطلوبين وانتزاع وعود صادقة من حركة حماس لحماية استقرار الاردن.

ولا تبدو واشنطن مستعجلة ايضاً بعدما نجحت في رفع مستوى التنسيق الامني مع الاجهزة الامنية اللبنانية لمنع انهيار الاستقرار الامني في لبنان.
وإذا كان للتعاون القائم مع جهاز الامن العام دلالاته العميقة والمعبرة جداً، إلّا أنّ لقاء كيري مع الرئيس سعد الحريري كان واضحاً لجهة ضبط الساحة السنّية في لبنان وتأمين الغطاء غير المشروط للأجهزة الامنية اللبنانية والجيش اللبناني في العمل على ضرب الخلايا المتطرّفة.

وفي لقاء كيري – الحريري في باريس، طرَح وزير الخارجية الأميركي نقطتين أساسيّتين: الاولى تتعلق بوجوب العمل على إنجاز الاستحقاق الرئاسي سبيلاً لحماية الاستقرار الداخلي.

وكان جواب الحريري بأنه طلب من نواب كتلته حضور كلّ الجلسات النيابية المخصّصة لانتخاب رئيس للجمهورية. إلّا أنّه أضاف: «أما إذا كان المطلوب إنجاز تفاهمات ثلاثية بيني وبين الرئيس نبيه برّي (رئيس مجلس النواب) وإنضاج التسوية على نار بطيئة (رئيس اللقاء الديموقراطي) على الرئاسة في معزل عن المسيحيين، فأنا لستُ بوارد ذلك». وقد لفت كيري في جواب الحريري، أنّه لم يتحدث عن مسيحيّي «14 اذار»، بل عن المسيحيين عموماً.

أمّا النقطة الثانية التي أثارها رأس الديبلوماسية الاميركية، والتي بدَت أنها تُشكّل اولوية مطلقة في هذه المرحلة، فهي الاستقرار الامني وتأمين الغطاء المطلوب لضرب الخلايا الارهابية ومنعها من هزّ الاستقرار الامني. وكان جواب الحريري أنه يقوم بما هو مطلوب من خلال الوزراء المحسوبين عليه في الحكومة، وهذا الامر مستمر الى الآخر.

لم يكن من باب المصادفة انتقال وزير الداخلية نهاد المشنوق الى باريس، ومن ثم إتصال الحريري بالنائبين معين المرعبي وخالد الضاهر لمنعهما من استهداف الاجهزة الامنية. وقد سمع الحريري من الضاهر أنّ كلامه الهجومي هدفه استيعاب الشارع السنّي في الشمال وليس إعاقة عمل الاجهزة الامنية. فالشارع الطرابلسي والعكاري يغلي ولا بدّ من إحاطته، وإلّا فإنّ «المستقبل» سيفقد حضوره الشعبي.

من أجل كل ذلك، لا تبدو واشنطن مستعجلة في إنجاز حلٍّ سريع في العراق من دون تحقيق أهدافها، طالما أنّ نار «داعش» تحرق كل الاطراف، ما يجعلها قابلة للموافقة على بنود كانت تبدو مستحيلة في السابق… فلمَ العجلة؟

السابق
ألتون جون: انا معجب بـ«البابا»
التالي
حرية شاليط أم مصير فاكسمان وتوليدانو