المُقدَّس الحرام

ما يجري في مدينة الخليل من إعتقالات عشوائية لا تميز بين رجل وامرأة أو بين طفل أو شيخ كبير، أو لرموز فلسطينية كرئيس المجلس التشريعي، أو لنواب ووزراء يحملون الحصانة الدبلوماسية وفقاً للقوانين والمعاهدات الدولية، إنما هو تعبير واضح لحالة الصدمة والتخبط التي يمر بها الإحتلال وأدواته، وبات من المعروف والمعلن، بأنه لم تكن لهذه الهجمة المسعورة لتحدث، لولا التنسيق والتعاون والشراكة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة، التي أبدت كل تعاون لمساعدة الإحتلال في البحث عن الجنود الثلاثة المختفين أو المفقودين أو المأسورين أو المقتولين… وتكفي شهادة الإدارة الأمريكية، وكذلك الإحتلال وجهات غربية حين أثنت على التنسيق ووصفوه بأنه “غير مسبوق”…

بموجب اتفاق أوسلو (2) في العام 1995، وفي خطوة أحادية الجانب فرض الإحتلال – وبموافقة فلسطينية – تقسيم مناطق الضفة الغربية الى منطقة “أ”، وهي الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية بالكامل أمنياً وإدارياً، ومساحتها 18% من مساحة الضفة البالغة حوالي 5760 كلمتر مربع، وتضم كافة المراكز السكانية الرئيسية، ومنطقة “ب” وهي خاضعة لسيطرة الشرطة المدنية الفلسطينية والقوى الأمنية الإسرائيلية وتضم القرى والبلدات الملاصقة للمدن، وتبلغ مساحتها 21% من مساحة الضفة، ومنطقة “ج”، وهي خاضعة بالكامل لسيطرة الإحتلال الإسرائيلي أمنيا وإدارياً وتشكل حوالي 61% من مساحة الضفة، وهي المنطقة التي اختفى فيها الجنود الثلاثة.

وفي عملية لم يسبق لها مثيل منذ نكسة العام 1967، وبعد حوالي سنة ونصف على إندلاع انتفاضة الاقصى في العام 2000، وفي فجر الجمعة 29/3/2002 قام جيش الإحتلال الإسرائيلي، وبقرار من حكومة شارون باجتياح الضفة الغربية في عملية أطلق عليها اسم “السور الواقي”، وبذلك فرض الإحتلال هيمنته على جميع مدن وقرى ومخيمات الضفة..

استطاع الإحتلال بعد 21 سنة على إتفاق أوسلو (1) الذي تم توقيعه بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” في العام 1993، و12 سنة على عملية “السور الواقي”، أن يحقق إختراقات في عقول الكثير من القادة السياسيين وقادة الأجهزة الأمنية في الضفة وغزة، وأن يعمل على غسيل مُحكم لكثير من الأدمغة الواهية بتحويل العدو إلى صديق لا بل إلى حليف في كثير من الأحيان، والقيام بتعبئة منهجية لتلك الأجهزة بأن المقاومة الفلسطينية ورجالاتها هي الشيطان الأكبر وأنها العقبة المستعصية أمام أي عملية تسوية أو إستحقاق للسلام في المستقبل سواءً للفلسطينيين أو للإسرائيليين أو للمنطقة عموماً، لذلك يجب العمل على محاصرتها وتجفيف منابعها تمهيداً لاجتثاثها والقضاء عليها بشكل نهائي.

استطاعت حركة “حماس” وتحديداً بعد سيطرتها على قطاع غزة في العام 2007 أن تقوم بعملية تطهير وتعقيم لذلك المرض المستشري ونجحت إلى حد كبير، وإلا ما تمكنت من إخفاء الجندي الأسير شاليط لخمسة سنوات في مساحة جغرافية منبسطة محدودة مكشوفة بحراً وبراً وجواً، تصل مساحتها الى حوالي 365 كلمتر مربع.

لذا ليس من الغريب أن نرى صوراً للقاءات تنسيقية تجمع جنرالات من الإحتلال الإسرائيلي مع قيادات من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة المحتلة، أو إقامة دورات تدريبية خاصة تجمع الطرفين، أو تشكيل ما يسمى بـ “غرفة العمليات المشتركة”، أو يتم تسليم “مستوطن” أو جندي إسرائيلي ضل طريقه ودخل عن “طريق الخطأ” الى مناطق خاضعة للسلطة الفلسطينية، أو القيام باعتقال مقاومين فلسطينيين اختارو أن يكون إنتماؤهم السياسي تبني للمقاومة بكل أشكالها، لتتطور مع الوقت تلك اللقاءات بين “الجهازين الأمنيين العتيدين” لتتعدى “الجوانب المهنية”، لتصل الى حفلات السمر والمناسبات الجامعة، وهذا بالتأكيد ليس عن عبث بل للمساهمة في المزيد من العلاقات الحميمية وتقبل فكرة التنسيق المشترك..

ما تقدم وبلا شك راكم تجارب وخبرات فاقت العقدين من الزمن، ومعها تكدَّست الملفات الأمنية التي يعمل الإحتلال على تغذيتها لا سيما بعد أحداث غزة 2007، ولا تتوقف محاولات شيطنة أي حراك باتجاه أي تقارب فلسطيني داخلي، حتى قال قادة الإحتلال بأن ما جرى للجنود الثلاثة سببه المصالحة الفلسطينية!، لذلك أن يصبح “التنسيق الأمني مُقدس”، هذه نتيجة حتمية لطرفين قبلا للأسف “عن وعي” بأن هناك حاجة لأحدهما للآخر..، إلا أن حالة فصامية مانعة حاضرة وبقوة، بين ما يحصل مع مجموعة محدودة من الشعب الفلسطيني اختارت هذه “القداسة”، وبين حالة وإرادة شعبية فلسطينية في الداخل والخارج، ومواقف شعبية عربية وإسلامية ودولية ترفض هذا السياق وتعتبر هذه “القداسة” من المحرمات، من يرتكبها تقع عليه أشد العقوبات..، وتدعو المُقَدِّسين لأن يكونوا الى جانب شعبهم، وأن ما يجري مخالفاً لسنن الكون مهما تغيرت الشخوص أو الظروف بأن يتحول هذا المكدَّس من الملفات والتنسيق الأمني.. الى مقدس ..!؟

السابق
البرازيل والمكسيك، قصة حب ومنافسة
التالي
أمن الدولة يدهم معملاً للالبان والاجبان في الدكوانة