القصة الكاملة للمفاوضات التي سبقت الانسحاب من حمص

لعلّ ما حدث في مدينة حمص أخيراً شاهد حي وواقعي على بروز وتبلور صوت المدنيين كلاعب في الصراع حتى وإن لم ينجح في أخذ مجرى الأمور تماماً في الاتجاه الذي أراد.

وكما ظهر فإنَّ الحل الذي نال تغطية إعلامية كبيرة في حمص، هو الحل الذي تمّ بموجبه تسليم القسم القديم من المدينة والذي كان تحت سيطرة مسلحي المعارضة إلى النظام السوري، وذلك شريطة انسحاب جميع المقاتلين مع أسلحتهم إلى ريف حمص الشمالي. ولكن ثمّة حل آخر كان يعمل عليه أهل المدينة، حلّ حقيقي يأخذ مصالح جميع الأطراف ويراعي مصلحة كل السكان, حل محلي داخلي نابعٌ من حساسيات المدينة ومشاكل أهلها. تمّت إزاحة وتهميش هذا الحل لصالح حل الانسحاب الكلي، الذي تأثر بصراع القوى الإقليمية وأخذ مصالح بعض القوى العسكرية التي تدعمها وإعادة رسم خريطة سيطرتها في الاعتبار قبل كل شيء. أزاح الحل الإقليمي الحل الداخلي الأهلي.

في آذار (مارس) الماضي، تشكلت في حمص بمبادرة من أهلها لجنة تفاوض تحمل تفويض من معظم الكتائب المقاتلة في كامل المدينة، أي في المدينة القديمة ومنطقة الوعر ودعم من المدنيين. بهدف التفاوض مع السلطة للوصول إلى صيغة تهدئة تشمل مدينة حمص، وتؤسس لسلام مستدام فيها. لم تكن هذه المحاولات الأولى من أهالي حمص للوصول إلى اتفاق. فقد كانت هنالك محاولة جدية سابقة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بعدما تشكلت لجنة تحمل تفويضاً مماثلاً وعقدت لقاءات مع مسؤولين أمنيين رفيعين في دمشق وضباط في القصر الجمهوري. وكان اللافت وقتذاك أن هؤلاء طلبوا من أعضاء اللجنة زيارة السفارة الإيرانية في دمشق والتفاوض مع قائد «قوات الدفاع الوطني» في حمص، الذي بدوره قدم خياراً وحيداً لهذه اللجنة يتلخّص بالآتي: خروج المدنيين من المنطقة المحاصرة وأيديهم مرفوعة، أما المسلحون فسيكون مصيرهم مصير مقاتلي حيي الخالدية وبابا عمرو أي الموت المحتم. كان هذا العرض نهاية تلك العملية التفاوضية.

بالتأكيد لم يكن من السهل على اللجنة التي تشكلت في آذار، الحصول على تفويض من المقاتلين للوصول إلى اتفاق تهدئة شامل. القدرة على استمرار اللجنة في حمل هذا التفويض، كانت مرهونة بقدرتها على تحقيق تقدم ملموس، ولو كان ضئيلاً وعلى مستوى إدخال المساعدات لتبرهن أن المسعى التفاوضي يمكن أن يحقق ما فشل فيه المسعى العسكري.

أصدرت اللجنة في السادس من نيسان (أبريل) نداء بعنوان «نداء إنساني عاجل من داخل حمص المحاصرة» طالبت فيه الأمم المتحدة وكل الأطراف المعنية بالعمل على إدخال المعونات الإنسانية إلى حمص المحاصرة. وعلى رغم أن بعض منظمات المجتمع المدني السورية، تواصل في شكل مباشر مع كل من فريق المبعوث الدولي – العربي الأخضر الإبراهيمي والأمم المتحدة في سورية من أجل إدخال المساعدات، إلا أن شيئاً لم يحدث على هذا الصعيد ما ساهم في دفع الكثير من المقاتلين للإصرار على أنه لن يكون هناك حل لمأساتهم إلا بعمل عسكري حاسم ينهي الحصار. وَفعلاً قام بعضهم بالتحضير لعملية تفجير بسيارة مفخخة كان من المفترض أن تنسف حاجز قيادة الشرطة، لتقوم بعدها مجموعة أخرى باستغلال هذا الاختراق وفتح ممر مع بقية المناطق. لكن السيارة انفجرت بمن كانوا يعدُّونها ما أدّى إلى مقتل أكثر من أربعين شخصاً، في حادثٍ مأسوي تجاهَلهُ الإعلام.

على رغم ذلك استمرَّت اللجنة في عملها لإيمان أعضائها بعدم وجود مخرج آمن آخر للأزمة سوى السياسة والتفاوض، وأصرت على أن لا تتم تجزئة الاتفاق بين حيي المدينة القديمة والوعر، حيث أنه لكل من هذه المنطقتين نقاط قوة مختلفة يُمكن جمعها الوصول إلى مكتسبات أكبر في التفاوض. واستطاعت بذكاء وبفضل قدرتها على قراءة خريطة الواقع في سورية وملاحظتها للانقسامات في صفوف أجهزة السلطة ومؤسسات النظام خصوصاً في حمص، بأن تجير الكثير من الأمور لصالحها، وأن تضع مسودة إطار تهدئة ممتازة بكل المعاير، مفصلة على قياس المدينة، وتأخذ في الاعتبار احتياجاتها الآنية الملحة، وجذور أزمتها العميقة في نفس الوقت. كان يمكن لهذا الاتفاق الذي أخذته الحكومة وبعض الفروع الأمنية والأجهزة العسكرية على مستوى مفاجئ من الجدية، أن يؤسس فعلاً لحل حقيقي في مدينة حمص يصلح لأن يكون نموذجاً يُبنى عليه في بقية المناطق.

 

شروط أولى للهدنة

تضمنت شروط الاتفاق أموراً عدة مثل وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء المظاهر المسلحة، وإبعاد المتشددين من كل الأطراف، بالإضافة إلى أمور أخرى مثل وقف الخطاب التحريضي والتخويني من كافة الأطراف، وتشكيل لجان لإدارة الأحياء على مختلف المستويات الأمنية والإدارية، وإعادة الخدمات الأساسية للمناطق المدمرة والأحياء غير المخدمة وإعادة تأهيل البنى التحتية ودراسة وضع العاملين الذين تم فصلهم من العمل لإعادتهم، وإعادة الطلاب للمدارس والجامعات، إضافة إلى إعادة فتح أسواق المدينة والتي تقع ضمن المناطق المحاصرة.

أدت التطورات على هذا المسار التفاوضي إلى تحريك أصوات دعاة الحسم العسكري في أجهزة السلطة. وتم بالفعل البدء بحملة عسكرية كبيرة لاقتحام المدينة القديمة ما اضطر اللجنة إلى إصدار بيان تعلن فيه تجميد العملية التفاوضية.

مقابل هذه الحملة، قام البعض من داخل الحصار بعملية عسكرية في «جب الجندلي»، وتم تنفيذ أكثر من تفجير انتحاري في المناطق السكنية المحسوبة على الموالاة من قبل مجموعات معارضة مسلحة من خارج الحصار.

دوامة القتل هذه والتي اتضح بعد وقت قصير أنها لن تفضي إلى حسم لأحد الأطراف، دفعت لجنة المفاوضات إلى إصدار بيان في ١٤ نيسان، تدعو فيه «المعنين بالتفاوض من جديد إلى طاولة الحوار لإكمال ما بدأنا به من عمل إنساني فيه حقن للدماء وحفاظ على ما تبقى من بنية تحتية في المدينة»، وأكدت اللجنة أن «دعوتنا هذه جاءت في هذه المرحلة لنثبت للعالم بأسره أننا لسنا متعطشين للدماء، وأننا كنا وما زلنا وسنبقى دعاة للسلم والاستقرار»، وحذرت اللجنة من أنه «إن لم يكن هنالك عودة جدية وحقيقية للعمل خلال هذه الأيام فإن الأمر سوف يخرج من أيدينا وندخل في صراع دموي لن تحمد عقباه أبداً وإن أحداث الأيام الماضية أكبر دليل على ذلك».

استؤنفت المفاوضات مجدداً، لكنها تعثرت مرة أخرى بعد أن قامت بعض القيادات في «الجبهة الإسلامية» بعد تواصل مع بعض القادة في حمص القديمة ببدء مسار تفاوضي منفصل عن هذا المسار السابق لتقوم بتفصيل ترتيب اتفاقها الخاص. ليس سراً الدعم الإقليمي الذي تتلقاه «الجبهة الإسلامية» وخصوصاً من قطر وتركيا، وليس غريباً والحال هذه أن تكون مفاوضاتها فوراً مع الطرف الإقليمي المقابل والداعم للنظام، وأقصد إيران التي تعتبر أيضاً من أهم داعمي «قوات الدفاع الوطني»، المنفذ الفعلي للحصار على المدينة القديمة في حمص، والمستفيد الأكبر منه عن طريق المبالغ الخيالية التي كان يتلقاها عناصره لقاء إدخال السلع إلى داخل الحصار.

نتج من هذه المفاوضات الاتفاق الذي ظهرت نتائجه في الإعلام. لكن غير المعروف إلى الآن، الثمن الحقيقي الذي قُبض مقابل حمص. ليس من المعقول أن تكون «الجبهة الإسلامية» قد أعطت النظام ورقة بحجم تسليم حمص المحاصرة، بالإضافة إلى إدخال معونات إلى قريتي نبل والزهراء في ريف حلب شمالاً، وتسليم أكثر من سبعين مخطوفاً وأسيراً بينهم إيرانيون، كل هذا مقابل ضمان سلامة أقل من ألف من المقاتلين وخروجهم إلى منطقة ثانية. علماً أن مدينة حمص قد خسرت أكبر من هذا العدد من المقاتلين، الذين تسربوا بهدوء على حواجز الحصار ليدخلوا في إجراءات التسويات الفردية مع النظام. أم لم يتساءل أحد أين ذهب الآلاف من المقاتلين الذين كان من المفترض أن يكونوا داخل الحصار؟!.

هنالك بالتأكيد ثمن قبض مقابل تسليم حمص، لكنه قبض في مكان آخر، ليس في حمص، بل وعلى الأغلب ليس في سورية نفسها. هذا الثمن الذي تم قبضه جاء على حساب ما كان يمكن أن يكسبه أهالي حمص لو أن المسار الأول قد تحقق. أي على حساب إطلاق سراح المعتقلين، وإعطاء مسلحي ومدنيي حمص دوراً في إدارة أمورها الأمنية والمدنية، وعلى حساب إعادة الموظفين والطلاب المفصولين وغيرها من المكاسب. هذه الفدية الإقليمية التي دفعتها مدينة حمص ستكون على حساب أمنها واستقرارها على المدى البعيد، فوحدها الحلول العادلة المشبوكة محلياً من قبل أهل البلد هي التي ستؤسس لاستقرار دائم في المدينة.

والمؤلم أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه، بدلاً من أن يحول كثيرين من أهل حمص الذين حملوا السلاح، إلى أشخاص لهم دور في حماية أمن أحيائهم، قام بنقلهم إلى منطقة أخرى ليتم تأجيج الصراع فيها ثانيةً ولتستمر طاحونة المَقتلة السورية في الدوران. إحدى النتائج الأخرى لعملية إجهاض الاتفاق الأصلي في حمص، هي أن الطبيب الذي لعب دور الوسيط في هذا الاتفاق، تم اعتقاله فوراً بعد خروجه من اجتماع طلب منه محافظ حمص حضوره، وتمت فيه مناقشة عملية خروج المقاتلين التي أتت نتيجة لاتفاق «الجبهة الإسلامية».

 

تململ في «قوات الدفاع»

وعلى رغم أن نتائج الاتفاق الثاني قد تم تصويرها على أنها انتصار للنظام، إلا أن «قوات الدفاع الوطني» لم تكن راضية تماماً عن هذا الاتفاق، بل أن الكثير من الأصوات في داخلها بدأت توجيه الاتهامات بالخيانة لداعمي الاتفاق من طرف النظام. فبعد أن تم إخراج المسلحين وتبين أن عددهم لم يكن بالكبير وُضعت قوات الدفاع في موقف حرج، فهي بعتادها وكل الدعم الذي تتلقاه لم تستطع أن تتغلب على هذا العدد من المقاتلين المنقطعين عن أي دعم، كما شكل خروجهم من المدينة بسلاحهم وتوجيههم رسائل بعد ذلك بأنهم لا يزالون راغبين في القتال والعودة إلى حمص إهانة إلى هذه القوات، خصوصاً أن هؤلاء المقاتلين سيكونون من موقعهم الجديد في الريف الشمالي قادرين على توجيه ضربات للمناطق السكنية الموالية التي يطرح «جيش الدفاع الوطني» نفسه على أنه المدافع الوحيد عن أمنها.

وقد تكون الضربة الأكبر لـ «قوات الدفاع الوطني»، أنه الآن فقد أحد أهم أدواره الرئيسية في حمص، ولا بد أنه سيبحث عن دور جديد يتعدى الحفاظ على أمن المناطق الموالية ولن يستطيع إيجاد هذا الدور من دون تأجيج صراعات ونزاعات جديدة في المدينة. هذا عدا عن أنه خسر مورد رزق رئيسي بإنهاء الحصار وسيعمل على إيجاد مصادر بديلة.

لكن الجولة لم تنتهِ بعد، ورجالات حمص الذين كانوا على قدر المسؤولية ليبادروا في المحاولات السابقة يتابعون مهمتهم لإنهاء الأزمة في منطقة الوعر التي يبدو أن الكثيرين نسوا أنها في حمص. فقرابة نصف مليون مدني تحت الحصار فيها يستحقون أيضاً اهتمامنا حتى لو لم تصل مأساتهم إلى مستوى ما وصلت إليه حمص القديمة. بل أن الكثيرين من سكان حمص القديمة ومن تجار أسواق حمص هم الآن في منطقة الوعر، ولن تكتمل محاولة إعادة الحياة إلى المدينة من دون إيجاد حل حقيقي لهذه المنطقة. لكن هذه المرة وبسبب حيثيات الأمور في الوعر وعدد المدنيين الكبير فيها ستكون فرصة التدخل الإقليمي أقل بكثير وكذلك فرصة أي حسم عسكري, وقد بدأت مفاوضات الوعر بتحقيق بعض النتائج بعد أن تم التوصل إلى اتفاق هدنة مبدئي يوم الجمعة ٢٣ أيار (مايو) لا يزال صامداً.

قد يكون الأجدى بالإعلام تتبع مسارات هذه المفاوضات وغيرها من المفاوضات المحلية في سورية والإنصات إلى صُناعها وقراءتهم للأحداث في منطقتهم بدل الاستمرار في الانشغال بمكوكيات الزعماء الذين يزعمون قيادة عن بعد

السابق
إضراب5 و6 حزيران لإقرار ملفي «اللبنانية»
التالي
احتفال تكريمي لمحافظ الجنوب