حرب أهلية تركية في أبوظبي

مفاجأة الوفد التركي كانت تامة.
فقد اعتقد أعضاء الوفد، الذي ضم نحو 14 باحثاً وأكاديمياً أنهم سيجدون في أبوظبي، حيث عُقد مؤتمر بعنوان “تركيا ومستقبل النموذج والدور” بدعوة من “مركز الإمارات للسياسات”، آذاناً تسمع وتُنصت لا ألسنة تناقش وتُجادل وتُواجه. وبالتالي، كان يكفي أن يطرح هؤلاء، أو معظمهم على الأقل، أفكاراً بديهية عن المعطيات التركية الراهنة والتاريخية كي ينتهي بالنسبة إليهم النقاش ويُغلق باب الاجتهاد.
بيد أن حسابات البيدر لم تتطابق مع معطيات الحقل. إذ تقدّم المشاركون العرب في المؤتمر، وجّلهم من دول الخليج، بمداخلات معمّقة وتحليلات موضوعية وأسئلة دقيقة، أدّت إلى بروز فجوة عميقة وواضحة في المستويات الأكاديمية والبحثية بين كلا الطرفين.
هذه المداخلات هي في الواقع التي أسفرت عن نجاح مشهود لهذا المؤتمر المُغلق، الذي توزَّعت أعماله على مسألة الشخصية والهوية التركيين وعلاقتها بالسياقات التاريخية لصعود التيار الإسلامي التركي، والتحولات الراهنة في المشهد الاستراتيجي والسياسي التركي( بما في ذلك مستقبل العلويين والأكراد الأتراك)، ومستقبل العلاقات التركية- الغربية، والدور التركي الإقليمي المحتمل بعد الربيع العربي، وأخيراً دور الاقتصاد والتنافس على خطوط الطاقة في السياسة الخارجية التركية.
الانفجار
معطيان إثنان ساهما في إسباغ سمة النجاح على المؤتمر.
الأول، نجاح إدارة المؤتمر في التقاط المسألة الرئيس لـ”القضية التركية” الراهنة، المتمثّلة في أزمة الهوية الطاحنة التي تعيشها تركيا هذه الأيام بين التيارات العلمانية والإسلامية والطائفية والإثنية، ثم دفع كل المشاركين إلى تركيز الانتباه عليها. وهذا أدى إلى محصلة مدهشة: تفجّر مايمكن ان يكون “حرباً أهلية باردة” بين المشاركين الأتراك الذين ينتمون إلى كل التيارات المتصارعة في بلاد الاناضول.
فقد انبرى، على سبيل المثال، ممثلو الأقلية العلوية، التي يقال أنها تضم مابين 10 إلى 12 في المئة من إجمالي الشعب التركي (74 مليون نسمة وفق إحصاء العام 2010 )، إلى التنديد بما وصفوه بالتمييز الذي يمارس ضدهم في البلاد، خاصة منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، على رغم انهم كانوا من أشد أنصار الدولة التركية الحديثة. وبالطبع، كان بديهياً أن يبدي هؤلاء قلقاً أعمق إزاء الهوية التركية الجديدة التي يحاول حزب العدالة والتنمية الحاكم بلورتها، من خلال عقد قران الهوية العثمانية الإسلامية على الهوية القومية الكمالية.
وممثلو الأكراد كانوا أكثر حدة حتى من العلويين في إبداء الامتعاض من بطء حزب العدالة والتنمية في تلبية مطالبهم، على رغم صفقة السلام التي أبرموها معه منذ أكثر من سنة. وهنا أيضاً كانت إشكالية الهوية التركية تطرح بقوة، لأن جهود العدالة والتنمية لدمج الاكراد في إطار الهوية العثمانية الجديدة، تصطدم بممانعة مطلقة من القوميين العلمانيين الذين يرفضون أصلاً الاعتراف بالأكراد كعرق مستقل ويسمونهم “أتراك الجبال”.
أما ممثلو حزب العدالة والتنمية في المؤتمر، فقد خيّم على مداخلاتهم ونقاشاتهم القلق والتوتر الواضحين، ماعكس بجلاء طبيعة الأزمة العنيفة الراهنة التي يواجهها الحزب في الداخل التركي.
حين جاء الأمر لتقييم مستقبل النزعة العثمانية الجديدة ودورها في المنطقة العربية، كان واضحاً  أن كل الأطراف تقريباً تتفق على أن النكسات التي تعرّض إليها الإخوان المسلمون في مصر وبقية الدول العربية والذين دعمهم حزب العدالة والتنمية، فاقمت إلى حد كبير من أزمة الهوية في الداخل التركي، الأمر الذي أسفر عن تراجع واسع للحيوية الجيو- سياسية التركية السابقة في المنطقة العربية، وهي الحيوية التي دفعت آنذاك العديد من المراقبين (بمن فيهم كاتب هذه السطور) إلى الاستنتاج بأن الحقبة العثمانية عادت بالفعل إلى المنطقة وهي تتمنطق هذه المرة بمزايا القوة اللينة (Soft power ) لا بحراب فرق الانكشارية الشهيرة.
بيد أن بعض المشاركين نبّه إلى ضرورة عدم القفز إلى نتائج متسرعة، قوامها أن تركيا الأردوغانية ستواصل اتباع سياسة خارجية تهيمن عليها الإديولوجيا الإسلامية. وأعادوا إلى الأذهان أن جل تاريخ تركيا استند دوماً إلى عاملين إثنين: الأولوية القصوى للمصالح القومية والبراغماتية في حدودها القصوى أيضاً، بغض النظر عمن يحتل مقر “الباب العالي” سواء أكان إسلامياً عثمانية أو علمانياً كماليا أو إسلاماً أردوغانياً كما الأمر الآن. وبالتالي، توقع هؤلاء أن يغيّر أردوغان قريباً توجهاته إزاء الإخوان المسلمين العرب، بعد أن تحولواً من “كنز” للمصالح التركية إلى “عبء” عليها.
مركز واعد
هذا عن معطى النجاح الأول للمؤتمر. أما المعطى الثاني فهو يتعلّق بالعملية التخطيطية والتنظيمية للمؤتمر.
وهنا اتفق العديد من المشاركين، والذين ناهز عددهم الخمسون، على أمرين إثنين: الأول، أن مركز الإمارات للسياسات قدّم، رغم حداثة عهده (عمره أقل من سنة) نموذجاً راقياً لعمل مراكز الأبحاث على مستوى التخطيط، والتحضير، واختيار المحاور، والهيكلية التنظيمية، والأهم على مستوى الإدارة الدقيقة للجلسات والحوار. وفي حال واصل المركز نجاحاته على هذا النحو، فلامبالغة إذا ما قلنا أنه سيكون في غضون خمس سنوات في الصف الأول لأبرز مراكز الدراسات العربية.
الأمر الثاني هو الدور الأكاديمي والتنظيمي الراقي أيضاً الذي لعبته مديرة المركز د. ابتسام الكتبي، والذي نال هو الآخر اعتراف المشاركين وعرفانهم. وعلى رغم ان كاتب هذه السطور لم يعتد الإشادات الشخصية بأي كان، إلا أنه كان مدفوعاً على الأقل إلى الشعور بالفخر لأن تكون المرأة العربية قد وصلت إلى هذا المستوى من الإنجاز، عبر ممارسة “القوة الهادئة” في إدارة نقاشات المؤتمر، وعبر المقاربة العملية والموضوعية في توجيه هذه النقاشات إلى أهداف واضحة ومثمرة.
وهنا أيضا، كانت مفاجأة الوفد التركي في المؤتمر، الذي كان يظن على مايبدو أن المرأة العربية متأخرة للغاية عن ركب التطور، لاتقل حدة عن مفاجآته الأخرى إزاء المستوى الأكاديمي والبحثي العربي الخليجي الصاعد.

 

السابق
عكاظ: الخطأ في ترك لبنان يغرق في فراغ دستوري
التالي
الفراغ الجميل