«يسلمو» يا يوسف

يوسف ملاح
يا يوسف، تمهّل قليلاً قبل أن يصير هذا الحزن بلداً. تصدّق؟ لو اجتمع مثلك بعد اثنان أو ثلاثة، لصرتم شعوباً، تقطن بين الزرع، ترفع الناس على الأكفّ لكي لا تدهس أقدامهم الحصاد. أنت شعب يا يوسف.

(إلى يوسف ملاح المتطوع في الدفاع المدني)
يا يوسف، تمهّل قليلاً قبل أن يصير هذا الحزن بلداً. تصدّق؟ لو اجتمع مثلك بعد اثنان أو ثلاثة، لصرتم شعوباً، تقطن بين الزرع، ترفع الناس على الأكفّ لكي لا تدهس أقدامهم الحصاد. أنت شعب يا يوسف. أيّ وجه لديك؟ أيّ دموع هذه؟ أيّ حرقة؟ ما الذي حرّكته فينا وكان منسيّاً، نحن المواطنين الذين بتنا نستحي أن نشتكي والموت «يجؤرنا»، متوعداً بالإرتخاء على جلدنا في أيّ لحظة. يا يوسف، لا تختنق هكذا منذ بداية الحديث، أراد الذي يحاورك أن يستمدّ من نفسك ليعطينا شيئاً من القوة. تكلّم بعد، علِّ صوتك، خفف الثقل عن صدرك، نعلم أنكم لستم بشراً مثلنا، وأن ملامحك التي تشبه كلماتك هي الإنسان الذي من عجين الأرض، بعدما كنّا قد نسينا شكله. ونسينا أصلاً أن للمظلوم صوتاً يسمعه الآخرون ولا يختفي كما الموتى. «رسالتي إلى الناس اللي عم تسمعنا، بكل صدق…»، أصلاً سبقك صدق القول في عينيك يا يوسف، وارتجاف فكّك وضمّ شفتيك والتماع عينيك من الدموع، وكل هذا الفراغ الذي يلفّهما من شدّة الحاجة. «تعو شمّونا يا عالم، والله ريحة تيابنا من ريحة الشجر». هذا ذهول كبير يا يوسف، كيف نسينا ذلك؟ كيف أخذتنا العتمة وصمّتنا المطالب، ونسينا أن نشمّكم؟ نحن الذين تعلق رائحة دمنا على أيديكم وثيابكم، نحن الذين يشحّ نفسنا فتمدوننا بأنفاسكم، نحن الذين تبتر أعضاؤنا فنتكئ على أعضائكم. نعترف لكم أنّا كنّا نحيد الطرف عنكم طوال الوقت، لأن من هم بحاجة إلى العون يجعلون مشاهدهم ملء العيون، بعدما تكونون أنتم اليد التي تدفع وتزيل وتمحي وترفع وتبيّض وتحنو. «الشجر بيعبطنا، الأحراش بيقولونا يسلمو، ولا حدا منكم بيقلنا يسلمو»، أنتم لستم بشراً مثلنا يا يوسف، أنتم اكتمال هذه الشوارع وبوصلتها، أنتم استثناء في هذا الوجود الوحش، أنتم أطراف الأرض التي لا حركة فيها من دونكم. أنتم الكلّ ونحن العدم. من أين لك كل هذا الحب للناس؟ من أين لك هذا الحرص على العيش؟ من أين يبدأ إنسانك يا يوسف؟ كيف يُقال؟ علّمنا بعض ما في جوفك، لكي نعرف كيف يعيش الشخص في الغابة من دون أن يكره، من دون أن يخاف، من دون أن يتحول وجعه إلى رصاصة تقتل وتحوّل أرصفة المشي إلى متاريس.
«أنا من كل محل من لبنان»، أنتم من القلب مباشرة. «نحن البرد صار بيعرفنا»، لأنكم دفؤه. وهذه المرة لا نريد أن نشقّ صدوركم لكي نشمّها، بل لنركن إليها.. ونحتمي.
يسلموا يا يوسف.

السابق
لجنة الاهل في ليسيه عبد القادر : وحدها عائلة الحريري تستطيع ان تدير المدرسة
التالي
شركة صينية تمنح 16 ألفا من موظفيها عطلة لأول مرة في التاريخ