نظارات المشير السوداء

في خطاب ترشّحه لرئاسة مصر، كانت عيون عبد الفتاح السيسي حاضرة، وبقوة. قبل صوته المخملي، المفعم بالحميمية والرقة، وشفتيه المكتنزتين، كانت عيونه، أو ربما نظرته، أشبه بتلك التي عرفت بها الموناليزا، صاحبة لوحة “الجكوندا”، التي خلدها الفنان الإيطالي من عصر النهضة، ليوناردو دي فنشي: فيها الحنان والغموض والحزم، وتلْهم بالخوف والجاذبية. كان هذا الخطاب متلْفزاً ومسجلاً، أي مدروساً من كافة نواحيه، خصوصاً تلك التي تعزز “كاريزما” الزعيم، وقد علمتنا الصور التاريخية ووثائقها، عن مؤشر العيون، أو “النظرة”، بصفتها نقطة إرتكاز لكاريزما صاحبها السياسية.

ولكن عندما يخرج السيسي إلى الملأ، في عرض عسكري، أو مهرجان، أو جنازة، ترى عيناه وقد حجبتها نظارات شمسية سوداء، من المؤكد انها فاخرة. وحده يرتديها، دون غيره من الضباط الكبار أو السياسيين، أو الجماهير الغفيرة. وأول ما يتبادر إلى ذهنك، هو الكيفية التي أوصلته إلى انفراده بارتداء هذه النظارات، وبهذا الموديل تحديداً، دون غيره من المحيطين به، أصحاب رتب كانوا، أو حرس، أو رسميين مدنيين. هل عمم مذكرة إلى الجميع بالإمتناع عن النظارات في حضوره؟ وبحصرها في شخصه؟ أم أن “كاريزما” السيسي، هي التي ردعت كل المتجاورين معه عن التشبّه به عبر لبسهم النظارات الشمسية السوداء، وإن اختلف موديلها؟

لا نعرف، وربما لن نعرف. ولكن المؤكد ان نظارات السيسي هذه هي واحدة من تعبيرات سلطته المعنوية، التي ستكون بعد الانتخابات سياسية شرعية. والمؤكد أيضاً، ان السيسي سوف يربح هذه الانتخابات، وكل وما هيأ له من ترتيبات إدارية وحملات أمنية وإستنفارات إعلامية تشير الى انه عازم على حكم مصر بقبضة من حديد أمني. وهذه هي بالضبط المعاني التي تحملها نظاراته الشمسية السوداء. وهو بذلك لا يختلف عن ديكتاتوريين مكتملين سبقوه في ميدان الحكم، وفي ميدان ضبط الكاريزما على وقع صورة من يخفي عيونه عن الناس، عن الزملاء، عن المحيطين، بالنظارات الشمسية لكي ترسخ الهيبة والسرية والخوف، مع المحبة والإعجاب والتأييد:  لائحة الديكتاتوريين واضعي النظارات الشمسية في أميركا الجنوبية، التشيلي أوغوستو بينوشت، قائد الإنقلاب العسكري ضد سلفادور ألندي، وفي آسيا، الكوري الشمالي، كيم جونغ إيل، وارث ديكتاتورية أبيه ، وفي أفريقيا نظارات الأوغندي عيدي أمين دادا، والغابوني عمر بونغو… واللائحة تطول.

كان الشارب أيام ديكتاتوريات أقدم، هو العلامة التي تميز القائد المتسلط صاحب “الكاريزما”؛ وقد تفوّق بينوشت على غيره من الديكتاتوريين، بأنه جمع بين الشارب والنظارة السوداء؛ قبله كان شارب هتلر الذي لا يشبه غيره، شارب ستالين، شارب فرانكو الذي تكثف مع الوقت…. وبعدهما شوارب الأسدين القليلة، القريبة الى الشقار، أو الشائبة، وشارب روبرت موغابي، الفريد، الذي هو عبارة عن “خيط” دقيق ينزل من وسط أنفه حتى أدنى شفته العليا، ثم شارب صدام حسين الرهيب… وكلهم يبدون وكأن إشارات تميزهم تبدلت مع الزمن الجديد، بعد إختراع حداثي جبار، هو النظارات الشمسية. معها، نزل الشارب عن عرشه. ثم، وببطء، انتقلت النظارات الشمسية إلى ديارنا؛ وبدل أن تقي من وهج الشمس، صارت تحمل معها علامات تميز؛ أكثر من أحبها هم المراهقون، الباحثون عن نقطة إغراء إضافية تجاه المراهقات. ثم ارتقت صناعة النظارات وبات لها ماركات راقية وغالية الثمن؛ وصارت، في الدول الديموقراطية، علامة الحراس الشخصيين للرؤساء. تراهم بالنظارات الشمسية التي تحمي نظراتها من الانكشاف على الذين يترقبون نيلهم من الرئيس. اسمهم “الغوريلا”، ومطلوب منهم، بنظاراتهم الشمسية خصوصاً، أن يخيفوا.

تأخر السيسي عن غيره من الديكتاتوريين الذين عرفهم القرن الماضي، ونظاراته تعيدنا إلى هذا الماضي القريب، زمن الإستقلالات عن الاستعمار وبناء الديكتاتوريات بعد التحرر منه. والآن، بعدما خلع القبعة والبلدة العسكريتين، إيذاناً منه ببدء مرحلة جديدة، “مدنية”، سوف تجعله رئيسا “غير عسكري” لمصر، هل يخلع أيضاً نظاراته الشمسية؟

لا شيء أكيداً. ولكن الأرجح ان حكمه لن يكون نزهة رائعة. النظارات الشمسية سوف تبقى، تنفصل عن الرداء العسكري، ولكنها لن تتخلى عن العيون التي تخبئها: هذا، على الأقل ما يوحي به الرسم الكاريكاتوري لأحد الرسامين، خالد البايع: مرسي واقفا كأنه يأخذ صورة تذكارية، إلى يساره، مشجب علّق عليه قبعته وبدلته العسكرية. في وقفته الصلبة هذه، يرتدي زيّ الفرعون وهندامه، من صولجان وخوذة فرعونية وسروال وعقد عريض، فضلاً عن لحية فرعونية أيضا هي تنمو تحت الذقن وتُربط مثل خيط سميك… وعلى عيونه نظارات شمسية!

السابق
انتقام سيغولين رويال
التالي
فالس الحل الوحيد