كما سوريا، لن يعود لبنان إلى ما كان…

سلام لبنان

ما كان لثورة أن تندلع في لبنان على غرار شقيقته المشرقية الكبرى. حاول بعض المتفائلين في البداية، منذ ثلاث سنوات تقريباً، أن يحاكي ما سبقها من ثورات مصرية وليبية ويمينية. فتظاهر نفر منهم، لمدة تقل عن شهر، رافعين شعار «إسقاط النظام». ثم تلاشت فرقهم بهدوء، ومن دون بيان ولا شعار ولا مراجعة، وعادت إلى قواعدها الأصلية سالمة.

وما أن مضى شهر أو أكثر، حتى ركب الإنقسام الوطني الكبير حول سلاح «حزب الله» حصانه الأسود، وأخذ يتموْضع على الثورة السورية، يلبسها ويزينها، ويمنحها طاقة جديدة، خرقت حتى الآن كل التوقعات وهي في طريقها إلى كسر المزيد منها.

وانقشعت بذلك المواقف، بين سنّة يدعمون الثوار وشيعة يدعمون الأسد. فلم يعد الحديث عن الثورات الأخرى يعبر طريقه إلى الفهم أو الموقف إلا من خلال مصفاة هذا الانقسام؛ هذا إذا حصل اهتمام حقيقي بها… فالثورة السورية استأثرت بجوارح اللبنانيين ومخيلتهم. ولو أرادوا نسيانها، ما استطاعوا. ارتباطهم العضوي بسوريا لم يعد مجرد نظرية ثورية أو قومية أو إرث «تلازم المسارين»؛ إنما واقعاً ماديا يلمسونه كل يوم، باللاجئين الذين يهددون هشاشتهم الديموغرافية، بالموارد التي أنهكتها حشود اللاجئين، أو بالإستنزاف اليومي لحدوده الشمالية والشرقية، الذي بات خطراً عليهم، بتفجير السيارات المفخخة أو بالجولات الطرابلسية أو الصيداوية أو البيروتية التي أطلت برأسها مؤخراً. وسياسة «النأي بالنفس» هذه، التي احتمت خلفها المواقف المتناقضة، لم تعد تملك من الخَشَبية شيئا؛ باتت لغة بلاستيكية بالأحرى، يسبكها قائلها على قياس موقفه الفعلي، الحقيقي، ليصيغ بذلك اللامعنى المختبىء خلفها. لعبة عبثية، تصلح للأطفال الذين يتسلون بتصور قوالب لشخصيات خيالية محبوبة؛ ومن دون براءة الطفولة…

ولكن المهم انه، وسط كل هذه التفاصيل المتناثرة، ان لبنان الآن لا تحركه إلا ديناميكية واحدة، والباقي إعلام. ويمكن قياس هذه الديناميكية بمقارنة بسيطة بين الفعاليات التي أقيمت للثورة السورية من تظاهرات وإعتصامات ومهرجانات وحملات.

فأولى من هذه الفعاليات التي يمكن وصفها بالـ»مدنية»، غير الطائفية، السلمية، اقتصرت على عدد قليل من الأفراد، غلب عليهم صفة الثقافة والنخبة، من دون ان تشمل كل أهل ذاك المجال؛ إذ أن أهل الثقافة أيضاً منقسمون على الخط الوطني نفسه. فيما الفعاليات الثانية التي تلت الفترة الأولى، والتي قادتها مجموعات دينية سنّية سلفية أو جهادية والقليل القليل من الإخوانية…. فكانت جماهيرية، مكثفة، تحريضية مذهبية، سجلت حضوراً إعلاميا وشعبياً، ونالت ما أرادته في سوريا، أي أن يقاتل («يجاهد») أفراد منها ضد قوات بشار، بالطريقة المستجدة التي تعرفها، وبالفوضى القيادية لـ»أمرائها».

عند هذا الحدّ، يمكن ملاحظة أشياء كثيرة: أولها أن الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت عقداً ونصف عقد لم تؤثر، لا على إستقرار ولا على إزدهار بلدان مجاورة له؛ اللهم إسرائيل، بغزواتها وإنجراراتها واستجاباتها الدورية لعقيدتها القتالية. المهم إن حربنا الأهلية نحن لم تحرك ساكناً عربياً مشرقياً واحداً، وإن تطعّمت بالقضية الفلسطينية. فيما الثورة السورية أصابت لبنان في الصميم، ومن نواحي مختلفة ومتفاوتة.

كان لبنان يعيش على وقع حرب أهلية «باردة» عشية الثورة السورية… وما أن اندلعت تلك الأخيرة، حتى تسنّنت هذه الحرب، وتجذّرت طبائعها وتوسعت لتكاد تشمل كل ذرة لبنانية حية. فالذي حصل ان الوجهة الطائفية، التي ارتدتها الثورة السورية، لم يكن ينقص لبنان غيرها ليعود إلى حربه الأهلية ويجددها الأهلية الغابرة بانقسامات جديدة، شيعية سنّية، معطوفة على القديمة، الإسلامية -المسيحية. ومع دخول «حزب الله» إلى سوريا دعماً لبشار الأسد، تصاعدت هذه الانقسامات في حدتها، ودخلت طور التقاتل المسلح، الشيعي-السني، بالنيابة أو الأصالة، في لبنان أو في سوريا. وفاز لبنان بذلك بمرحلة إهتراء جديدة، قوامها «دولة» تلعب بـ»النأي بالنفس»، وقوى على الأرض تقرر مصيره ويومياته، بناء على موازين القوى المسلحة الراسية، دائما مؤقتا، على هذا الطرف أو ذاك.

ولئن رغبت أنت، «المدني» غير الطائفي، أن تقول شيئاً أو تعبّر عن موقف هو دائما «ضد» أو «مع»، فانك لن تجد فيه طرفا يرضيك: من جهة نظام ممقوت، ارتكب جرائم ضد إنسانية متسلسلة. ومن جهة أخرى ضباب كثيف من المجموعات الإسلامية الجهادية والسلفية، يستعجل بعضها لإقامة القصاص على الذين حرروهم من النظام. وإنعكاساتها اللبنانية المباشرة، بين حزب مسلح منظم وتحت إمرة علنية لإيران، تواجهه فرق مبعثرة من المجموعات السنية الغاضبة على «اغتصاب حقوقها» في سوريا ولبنان. وبينهما، أو بالتداخل معهما، «دولة» و»مجتمع»، هما إلى المستنقعات أقرب.

ولكن الأدهى من ذلك، أنه وسط هذا الحيز «المدني» للإنقسام الوطني، الدائر بين السنة والشيعة، ضاعت الطوائف اللبنانية الأخرى، لتتوزع مع هؤلاء ضد أولئك. وبذلك، كبرت الهوة بين الذهنية القديمة التي ما زالت معتمدة، وبين الوقائع على الأرض؛ فضاعت كل أنواع التصنيفات السياسية الممكنة بعدما فرغها هذا الإنقسام من قيمتها السياسية أو المعرفية. فالقومي، أو اليساري، أو العلماني، أو الليبرالي… كل هؤلاء يمكن أن تجد نماذج منهم موزعين بين ضفتي الانقسام. هو ممانع، ويساري. غير ممانع ويساري أيضاً… وكذلك القومي والعلماني… الخ. ما علاقة ماركسية فلان، مثلاً، بوقوفه هنا أو هناك؟ شيء قليل جداً، طالما انه يتواجه مع ماركسي آخر حول «الأهم»، أي الإنقسام؛ هو الذي يصنع له مزاجه السياسي، لا ماركسيته… هو الذي يرسم له إنحيازاته السياسية، لا الماركسية… وهلم جرى…

هذا سبب واحد من أسباب تداعي الفكرة المؤسسة لـ»معنى لبنان» أمام ضربات الزلزال المذهبي. أن لا تجد لنفسك صفة «عقائدية» أو هوية سياسية، تؤطر موقفك، فلا ديناميكية لك على الإطلاق… إلا تلك التي تدفعك نحو هذا الطرف، المذهبي، الأصولي المسلح المرتبط، وعلناً وضمناً، بحسابات أخرى غير حسابك الوطني الخ. الديناميكية المذهبية متفوقة لأن «خصومها» خالو الوفاض، ضعفاء في تحديد رؤيتهم وبالتالي هويتهم، اللهم الفردية منها. وهذه قوة وضعف في آن، بحسب المعطيات والسياق. ولكن المؤكد ان السياق الراهن لا خير فيه للفردية؛ وحدها الهويات الدينية هي التي تتكلم وتصيغ وتحرك وتدفع بالوثبات الى الأمام.

لبنان لن يعود كما كان. بكل عجره وبجره، كان كياناً. والآن أصبح مستنقعاً تهترىء بداخله القوى الحية، مثلها مثل القوى «المدنية» وأحزابها. خرابه مثل السوسة، لا يشبه البراميل المتفجرة ولا حصارات التجويع. سوسة تنخر عظمه، الإنساني قبل الاجتماعي أو غيره. كان تحت الوصاية السورية، والآن بات تحت وصايتين سوريتين، لا نعرف متى تثبت الواحدة إنقلابها على الأخرى. والمفجع ان الأدوات «النظرية» لمقاربة مستقبله المظلم لم ترتق الى مستوى الكوارث التي تنتظره، وأقلها ضرراً الكارثة الديموغرافية الغارقة في فوضى سوف يندم اللبنانيون على تركها سائبة، هكذا، من دون تنظيم ولا تقنين. سائبة أموالها خصوصاً، لأن من بين المهن الجديدة التي ابتكرتها الحرب على السوريين، هي التجارة بالمساعدات الضئيلة المقطرة، التي تأتيهم من ضمائر ما زال فيها شيء من الحياة.

لبنان بأوجهه كافة يتحلل أمام عيوننا. معركة «الأنفال» التي تشنها ثلاث مجموعات إسلامية، على رأسها «جبهة النصرة»، ردا على معركة يبرود: كيف يفكر اللبنانيون بشأنها؟ هل يستطيعون الخروج من هذا التفكير بغير «مؤيد» لأبطالها، و»معارض» لها، وعلى الدرجة نفسها من الحماسة والشغف؟ وقسْ على ذلك…

ولكن الأفخاخ المنصوبة لهكذا تفكير، الذي لا يملك غير الإنحياز سلفاً وبقوة، هي أن بطولاته لا تسجل على لبنان إنما على سوريا. بمعنى أوضح: ان اللبنانيين لم يعودوا يفكرون بلبنان إلا بواسطة ما يحصل الآن في سوريا، من دون قياس ما هو حاصل في الآن عينه في لبنان. هكذا يتآكل لبنان في عقول اللبنانيين، وتكبر سوريا فيختلط البلدان اختلاطاً دموياً فوضوياً، وتعود الوصاية من حيث انتهت. وكالة حكم عن وكالات قوية وضعيفة، متداخلة متصارعة. وهكذا يكون لبنان، صاحب رسالة التعايش قد تحول الى مرتع الفكر والممارسات الملتحقة بفلان بوكالته عن فلان، الوكيل بدوره لفلان… حتى آخر السلسلة من الوكلاء.

السابق
هل يكره أهالي طرابلس الجيش؟
التالي
سليمان: لاستكمال الاستراتيجية الدفاعية وتعزيز الجيش